سعيد الصالحي
اختفى ضوء القمر، وزادت الظلمة جالبة معها وحشة تشبه وجع الأسنان، واختفت معالم الطريق الترابي الذي يربط بين قريتنا الصغيرة الوادعة والعالم الآخر، كنت أظن أني أحفظ هذا الطريق عن ظهر قلب، وأني أستطيع أن أعبره وأتنقل بين حفره وأنا معصب العينين، ولكني تعثرت في أول الطريق وزلت قدماي في كل الحفر، فالعتمة كشفت عورات هذا الطريق التي طالما أخفاها النور وتستر عليها ضياء القمر.
وتعلمت بعد أن تمزق بنطالي بأننا عندما نسير في العتمة نحتاج أن نرى الأشياء بقلوبنا، فالعينان تصبحان مجرد اكسسورات تزينان الوجه، فقوة القلب هي السلاح الذي يحتاجه المرء ليخترق حاجز الظلام، ويعبر قافزا فوق الحفر، وفي الظلمة أيضا تصبح الحواس تستجدي إحدى نبضات القلب ودقاته لا لتستشعر الأخطار بل لتشعر بوجودها، وحينها تدرك أنك كنت تعيش طوال حياتك بخمس حواس مستأجرة كانت تماما كنشرات الأخبار تنقل إلينا ما يريدنا غيرنا أن نعرفه وأن نصدقه.
كانت قرقعة سكان القرية على الطناجر وصفة شعبية مجربة للتغلب على الظلمة والانتصار على الوحشة، كان الكل يقرقع على طنجرة تتناسب ووضعه الاجتماعي والاقتصادي فقد ذابت كل الفوارق الطبقية في القرية ووحدتنا الطناجر، طناجر من كل الفئات والأحجام، طناجر محلية وأخرى مستوردة، جميعها فرت من نار غاز الطبخ وتحولت طبولا تزأر على جنبات الطريق وفوق الأسطح وعلى الشرفات، توحدت جميع الطناجر في قريتنا وحتى الحمى وصلت إلى أباريق الشاي وبكارج القهوة، فقريتنا الليلة موحدة ومتحدة فليت ضوء القمر وأشعة الشمس لا تأتي إليها حتى نشرب حتى العطش من هذه الألفة والوحدة.
كنت في عهد الاضاءة اقطع الطريق في نصف ساعة حتى أصل مشارف قريتنا، أما الليلة فلم أصل قريتنا إلا بعدما انتصرت القرية في موقعة الطناجر وتنفس الصبح، وكشفت الشمس عن ساقيها وهي تنشف ملابس جيراننا على منشر الغسيل، وككل يوم كان سكان القرية يتجهون إلى أعمالهم بذات الوجوه التي تشبه ملابسهم، والتي لا تبتسم ولا تتبدل إلا في المناسبات، فدلفت مسرعا نحو مطبخنا لأجد الطناجر في مواقعها، وحتى بكرج القهوة كان مستلقيا في الدرج كعادته، ثم خرجت نحو الشارع الوحيد في قريتنا لعلي أجد طنجرة بلا أذن أو بكرجا بدون مقبض أو إبريق شاي مجدوع الأنف، فلم أجد جريحا ولا عرس شهيد، فتجرأت وسألت أحد المارة عن أحداث ليلة الأمس، فنظر إلي مشفقا وقال لم أسمع أي قرقعة في قريتنا إلا عندما سجل محمد صلاح الهدف الأول لليفربول، وسألت معظم المارة فأنكروا نصرهم، فتركتهم بعد أن أدركت أن الجيران تكتموا على كل هذه القرقعة عندما سرت بينهم إشاعة مفادها بأن الحكومة ستفرض رسوما على الطناجر متعددة الأغراض.