جرادات تكتب: حرب غزة والتحول العالمي نحو القضية الفلسطينية
د. منيرة جرادات
منذ أن بدأت الحرب البشعة على الأهل في غزة، بدأ جلالة الملك جهوده الحديثة والمتواصلة لوقف هذه الحرب والتركيز على أنه لا بُدّ من تنفيذ حل الدولتين، الذي بدونه لا يمكن أن تنعم إسرائيل والمنطقة بأي استقرار فعليّ. والحقيقة أن جلالة الملك لم يترك منبراً إقليمياً أو دولياً إلا وأكدّ من خلاله على أن ما حدث في السابع من أكتوبر ما هو إلا نتيجة مباشرة لتجاهل المجتمع الدولي على مدى العقود السبعة الماضية لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وعلى ارضه،هذه الأرض التي تعترف القرارات الدولية بأنها أرضاً محتلة. إن الجهود التي قام و يقوم بها جلالة الملك منذ بداية الحرب على غزة والمقرونة بإحترافية الدبلوماسية الأردنية بقيادة جلالتة، إضافة الى الجهد الإعلامي المتميزالذي تبذله جلالة الملكة والذي وضع العالم أمام مسؤولياته الإنسانية والأخلاقية، بدأت مجتمعة تأتي أُكُلها، حيث من الواضح أن هناك تحولاً عالمياً نوعيّاً غير مسبوق تجاه القضية الفلسطينية. وهذا التحول ينعكس في المؤشرات التالية:
أولاً: إن المؤشرالأهم يتمثل فيما حدث في الجمعية العامة للأمم المتحدة عندما صوّت قبل أيام 143 دولة لصالح منح فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة وإمتناع 25 دولة عن التصويت ومعارضة تسع دول فقط لهذا القرار. إن هذا التصويت إستشعر خطورته ممثل إسرائيل في هذه الجمعية والذي قام بتمزيق ميثاق الأمم المتحدة على مرأى ومسمع من العالم كله بطريقة تعكس استخفافاً واضحاً بالاجماع الدولي وإهانة مبتذلة لمبادئ الديمقراطية التي تعودت إسرائيل التشدق بها. وهذا التصويت بدأ يقترن بتزايد عدد الدول التي أعلنت إعترافها بدولة فلسطين والتي كان آخرها كل من إسبانيا والنرويج وايرلندا، بالإضافة الى أن دول مثل فرنسا وألمانيا أعلنت أن الإعتراف بدولة فلسطين غير مرفوض من حيث المبدأ لكنه يحتاج الى مزيد من المباحثات. وهذه الوتيرة المتزايدة من الإعتراف بدولة فلسطين وصفها زعيم المعارضة الإسرائيلية يوم أمس بفشل دبلوماسي غير مسبوق في تاريخ إسرائيل. يبدو أن هذا التحول الدبلوماسي العالمي دفع صحيفة الغارديان البريطانية إلى الإقرار في عددها الصادر بتاريخ 11/5/2024 بأن إسرائيل تواجه تسونامي دبلوماسي، وأن عزلتها عن العالم بسبب حرب غزة تتزايد والأزمة تتعقد. يضاف الى ذلك تزايد عدد الدول التي تنضم إلى دعوة محاكمة إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية لدى المحكمة الجنائية الدولية، حيث أعلنت مؤخراً دولاً مثل مصر وتركيا وغيرها أنها ستنضم إلى قائمة هذه الدول. والحقيقة أن خطوة مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية بتوجيه مذكرات إعتقال لرئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعه بسبب جرائم الإبادة الجماعية في غزة تعتبرسابقة تاريخية أثارت غضبا عارماً في الولايات المتحدة وإسرائيل وإرتياحاً لدى العديد من الدول المُنصفة والتي تحترم القانون الدولي الإنساني. ويبدو أن بعض الإسرائيليين المؤثرين أدركوا جيدا حجم التحول العالمي نحو القضية الفلسطينية، حيث وعلى سبيل المثال، كتب المحلل الإسرائيلي زيف معوز في هآرتس “أن الحرب في غزة سيتم ذكرها إلى أبد الابدين بإعتبارها الهزيمة الأكثر خزياَ في تاريخنا”.
ثانياً: إن الحراك الذي شهدته ولا تزال تشهده بعض أعرق الجامعات الأمريكية والأوروبية يعكس تحول نوعياً في موقف الشارع الأمريكي والأوروبي تجاه القضية الفلسطينية. وهذا الحراك نجح في كشف القناع عن زيف منظومة القيم الغربية والأمريكية وعن الانتقائية والمعايير المزدوجة في التعامل مع انتهاكات القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، الأمر الذي أعاد القضية الفلسطينية إلى الواجهة بصورة لم نشهدها من قبل. والواقع أن هذه المظاهرات والتعامل الأمني غيرالديمقراطي معها كانت المادة الرئيسية في معظم وسائل الإعلام الأمريكية والعالمية وعلى الرغم من أن هذه الوسائل الإعلامية المُنحازة أصلا لوجهة النظر الإسرائيلية اهتمت أكثر بأعراض هذه المظاهرات والتعامل الأمني معها دون الاهتمام بالأسباب الحقيقية التي قادت إليها، إلا أنها نجحت في إحداث نقلة واضحة في الرأي العام العالمي والأمريكي نحو القضية الفلسطينية خاصة بين الشباب والمثقفين. ولقد لفتت هذه المظاهرات أيضاً الانتباه إلى حجم الظلم الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني الذي حُرِمَ من أبسط حقوقه في الحرية والكرامة وتقريرالمصير. وهنا فإنه من المهم ملاحظة ان قيادة فئتيّ الشباب والمثقفين لهذه المظاهرات يُكسبها ميزة خاصة لأن هؤلاء هم من سيتولى قيادة بلدانهم في المستقبل القريب.
ثالثاً: من مظاهرالتحول الإعلامي نحو القضية الفلسطينية إحجام قادة اسرائيل من السياسيين والمفكرين والعسكريين عن مواجهة وسائل الإعلام العالمية والأمريكية نتيجةً لعدم قدرتهم على مواجهة الحقائق البشعة التي كشفتها الحرب الإسرائيلية على غزة. إن فشل الماكنة الإعلامية الإسرائيلية كان واضحاً في التعامل غيرالمهني وغيرالعادل مع مقابلات جلالة الملكة رانيا العبد الله التي بثتها اشهر محطات التلفزة الأمريكية، هذه المقابلات التي كانت أنموذجا في الإقناع والتأثير، حيث تجلى هذا الفشل في عدم قدرة هذه الماكنة على مواجهة الحجة بالحجة والمنطق بالمنطق والحقيقة بالحقيقة، حيث لجأت هذه الماكنة بدلاً من ذلك إلى عمليات الإجتزاء والتحريف والتشوية بحيث تأخذ جانباً من حديث جلالتها وتترك الجانب الآخرالمكمل للفكرة، وبأسلوب يُخرِج حديث جلالتها عن سياقه الموضوعي وعن منطقهِ الإنساني المتوازن. وهذا يدل بوضوح على إفلاس الماكنة الإعلامية الإسرائيلية والفشل الذريع في مواجهة التحول التي أحدثته هذه المقابلات في تغيير الرأي العام العالمي بعامة والرأي الأمريكي بصورة خاصة نحو القضية الفلسطينية.
ختاماً، إن هذه المؤشرات تؤكد بما لا يدعْ مجالا للشك أن القضية الفلسطينية لم تعد كما كانت عليه قبل السابع من أكتوبر وأن إسرائيل أيضا وبعد حربها على غزة لم يعد بمقدروها الإستمراركدولة في المنطقة دون الإعتراف بحق الشعب الفلسطيني بإقامة دولته على أرضه. ومن الواضح أن عدم إستجابة رئيس الوزراء الإسرائيلي للضغوط المتواصلة لوقف هذه الحرب البشعة هي نتيجة لقناعته المطلقة أن وقفها سينهي حياته السياسية و سيضعه في موقف لا يستطيع معه مواجهة الهزيمة الإستراتيجية التي مُني بها .