أ. سعيد ذياب سليم
جارنا يعمل في بقالة صغيرة، يبدأ نهاره مبكرا قبل دوام الطلبة في المدرسة المجاورة، ويستمر عمله حتى ساعة متأخرة من
الليل، ذهبت اليوم لشراء بعض حاجات البيت، وجدته حزينا على غير عادته، سألته فعلمت أن ابنه قد رسب في الثانوية
العامة و أنه يحمل ثلاث مواد مهمة، بعد أن وفر له ما يريد.
–أليست المواد هي نفسها التي درسناها في الماضي!
بلا سوى اختلافات قليلة لا تكاد تذكر .
–إذن لماذا حدث ذلك ؟ لقد حصلت على درجة عالية في زمني، برغم الظروف التي كنت أعيشها.
أسئلة كهذه دارت في أذهان كثير من الآباء عندما ظهرت نتائج ابنائهم، لقد وفرت له كل شيء: أعطيه حاجته من النقود و أكثر،
أحضرت له أفضل المعلمين لتدريسه، اشتريت له ” تلفون محمول” بأحدث المواصفات ، لا أمنعه من الخروج في أي وقت.
–فلماذا كانت هذه النتيجة ؟
نحن نتاج تجاربنا مع الحياة، بضع نجاحات وكثير من الخيبات، أفكارنا وأحاسيسنا وأمانينا هي انعكاس مكوناتنا الداخلية،
تلك التي تحمل خبراتنا وما نتج عن أعمالنا. بدأ ذلك مذ كنا على مقاعد الدراسة ومع أول عصا لامست أكفنا من يد
المعلم وأول إخفاق لنا في امتحان الإملاء والحساب، وتتابعت الإخفاقات، تحصيلنا في الثانوية العامة، فشل علاقاتنا في
الحب والصداقة، تردي معدلاتنا الدراسية في الجامعة ومن ثم تواضع نجاحنا في العمل والمجتمع، نعيش دائما في شريط
ضيق بين بحر الحياة و صحرائها فنحن لسنا استثناء.
ما نعزي به النفس هو اعتقادنا أنّ ما أصابنا لم يكن ليخطئنا وأنّ لنا فرصة أخرى في الآتي من الأيام وأنّ فرصتنا
الحقيقية هي في تربيتنا لأبنائنا، فماذا صنعنا؟ عملنا على نحتهم بطريقة يظهرون بمظهرنا، يتصرفون بنفس الحدة التي
نخاطبهم بها، فانعكس ذلك على نتائج أعمالهم.
أردنا لهم التفوق على نظرائهم في كل مجال من مجالات الحياة بغض النظر عن قدراتهم، كافأناهم على تفوقهم و عاقبناهم
على فشلهم ، فأصبحوا سجناء انفعالاتنا ، لا يعلمون متى نخرجهم من جنتنا، راقبنا أحاسيسهم وبالغنا في حمايتهم، كانوا
أشياءنا التي نفتخر بها ونستعرضها كسياراتنا أو بيوتنا، رأينا هو النافذ على خياراتهم : ماذا يلبسون ، من يصاحبون، فكانوا
نسخا غير مكتملة النمو عنا، يفتقرون للتجربة ولا يملكون قناعات ذاتيه ثابتة يواجهون بها الحياة.
في المدرسة درسنا عنهم دروسهم وقمنا بحل واجباتهم البيتية، حتى إذا جلسوا للامتحان العام بحثوا عنا فلم يجدونا
بجوارهم ولكن خارج القاعة ننتظر منهم الحصول على الدرجات النهائية، فإذا ظهرت النتيجة أنكرناها.
هل كان كافيا أن جلبنا لهم أفضل المعلمين ليقوموا بأدوارنا؟
نعلم أن لكل منا قدرات علمية وفنية مختلفة يغلب فيها الطبع على التطبع، وأن الموهبة والمهارة شيئين مختلفين يكمل
أحدهما الآخر. قد يفقد المرء أحدهما أو كليهما بالرغم من ذلك طالبناهم بالمستحيل ليحققوا ما لم نستطع نحن تحقيقه، نتج
عن ذلك – أحيانا- أشخاص ينقصهم التوازن العاطفي يخلطون بين واجباتهم وحقوقهم ويغلفهم النفاق، فكان تعاملهم مع
الحياة أشبه ما يكون بالصراع على البقاء.
يتقن أبناؤنا استخدام التكنولوجيا بمهارة فائقة فهم أذكياء جداً، لا نستطيع مجاراتهم في هذا المجال لكن لا يستطيعون استخدام قيما
كالاحترام المتبادل، التعاون، الحب، الوفاء، الحرية و انعكاسها عليهم و على الآخرين، فإذا سألت: لماذا عدت باكرا ؟ ما الذي يشغلك؟
تبدوا مرهقا! ينفجرون فينا متأففين :”ما فيش أشي.” يظنون أننا نحقق معهم، فاللغة المشتركة بيننا تكاد تكون معدومة،
لسنا أصدقاء، يخفون عنا مشاكلهم ، مشاعرهم ،مخاوفهم و أحلامهم، وعلى الأخص في سن المراهقة حين لا يدركون ماذا يجري
لأجسادهم وعواطفهم ، يروننا أبناء زمن آخر ليس له صلة بالحاضر وأننا قاصرين عن فهمهم.
فشلنا في تصوير أهمية العلم لهم كالماء و الهواء وأنه ليس مهنة بقدر ما هو حياة وثقافة ومدنية، هل فشلنا إذن بأن نكون لهم آباء ؟
كنت اتفقت مع جارنا أن أجلس مع ولده، وجدته شابا طموحا خلوقا يقوم بما ترتب عليه من دراسة، يحمل هم والده، سألت عن نتيجته
فسكب علي جرار مبرراته حتى أغرقني في دفاعه عن نفسه، عرضت عليه المساعدة بصفتي معلما فلم يكن بوسعه أن يختار إلا بالعودة
لوالده ، من الواضح أنهما لم يتحدثا منذ ظهور النتائج، كل منهما متقوقع على نفسه ، كان يتساءل : ماذا قال لك والدي ؟ يريد أن يعرف هل
مازال في الجنة أم عليه الهبوط منها مع حوائه وشيطانه ؟
إنهم يشبهوننا فهم بعض أخطائنا.
1 تعليق
محمود اسليم
في الواقع اقترح عليك – ا. سعيد – اسما اخر للمقال ( نحن لا نشبه اباءنا ).
نحن ( الاباء الجدد ) في حقيقة الأمر اباء مستقيلين، لم نستطع أن نكون جسرا لعبور منظومة القيم لتصل من اباءنا لاولادنا وربما لم نحاول حتى، نحن ايضا ازواج مستقيلين فلا زال أحدنا يرتبط ببيت اهله ارتباط طفولي ساذج وغير واعي وكأنه يلح بالرغبة أن يبقى ولدا في هذا البيت لم ينهي فترة حضانته بعد.
يا سيدي قبل أن تحدثنا عن فشل الأبناء علينا جميعا أن نتحدث طويلا عن فشلنا نحن كاباء:
* كم نسبة من علم أبناءه ثم طور البناء العظيم لأسس ومباديء هذا الدين، بل اكتفينا – في احسن الاحوال- بتعليمهم طقوس الصلاة والصيام والحجاب وانتهى الامر على ذلك، اما أن نتحدث ونناقش معهم علنا المباديء الاولى التي جاءت بها الرسالة كمثل المساواة والرحمة و…الخ فكان نتاج خطأنا اما متزمت واما ملحد وفي احسن الاحوال لا ادري متخبط.
* كم نسبة من جذر في نفوس أبناءه قيمة الحرية، انا اجزم انه قليل، فكان نتاج ذلك زيادة مفرطة في عدد المتعاطين للمخدرات لماذا فقط لأنه يريد أن يجرب كيف يمكن له أن يكون حرا طليقا ليس لشيء او احد إمكانية السيطرة عليه او كبحه، وانتشرت اعداد مهولة من أبناءنا الذين يعيشون في عوالم افتراضية وهمية خلف شاشات الكمبيوتر او الهاتف ….الخ.
*من منا او من هم الذين ارسوا في نفوس أبناءهم قيمة العلم والثقافة والفنون كقيم وليس كمهن مستقبلية، نحدثهم عليكم أن تدرسوا لتكونوا اطباء او مهندسين او… يتحول فكرهم الى فكر مادي عقيم جامد ليس فيه مساحة لمتعة الحياة والحضارة،
الحديث ذو شجون وليس هنالك متسع
شكرا لك لانك علقت الجرس، فكان لابد من أن يبادر أحدنا بذلك.
محمود اسليم