محمد داودية
هايل العبيديين، نموذج حار وحلو وحميم، على أن الشخصية الشعبية القيادية الأردنية، ذات مكونات صلبة متينة صعبة، لا يمكن تصنيعها في دوارق المال والإعلام، تمامًا، كما هو الشيخ الأردني البلدي الأصلي الأصيل، الذي يسهل معرفته وتمييزه عن «شيخ تايوان» ذي العباءة الذهبية البراقة المزركشة التي ليس فيها إلا الخواء !! العناصر الداخلة في بناء الشخصية الشعبية الوطنية، خليطٌ من مكونات لا تتماثل ولا تتطابق، كما في بصمات اليدين،
وأبو عمار نموذج على القادة الشعبيين الذين أصبحوا «مؤثرين» اجتماعيين وطنيين. كان «يطلع لايف» لمدة تزيد على ساعة أحيانا، فيمسك المشاهدين بخفة دمه وغوصه العميق في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأحداث المحلية والأمثلة الشعبية الجذابة، وتوظيفها توظيفا خلاقًا.
وكان هذا الفتى الطفيلي الهائل الضخم، غير هيّاب، وهو ما نسميه في مصطلحاتنا الشعبية «مَخَش»، أي يدخل ويخش حيث لا يدخل ولا يخش الا من هم على شاكلته الجسورة. وأبو عمار «وديه ولا توصيه»، على رأي طرفه بن العبد: «فأرسل لبيبًا ولا توصِه».
عندما تدعو ابا عمار إلى عرس ابنك، يحضر مبكرًا، يقف في القاعة ويعيد ترتيبها ترتيبًا مدهشًا، ثم ينتقل إلى حيث موقع طهي غداء العرس، فيطرد العريس وأبا العريس وأخوة العريس والأعمام والأخوال، ويحل محلهم، مشرفًا واحدًا وحيدًا على إعداد «القرا» فيكون ما تتمنى.
وكان فريدًا في قدرته على التعامل مع الموالاة والمعارضة، فخلال أيام الربيع العربي، في بيته بالطفيلة فقط، كانت المعارضة والموالاة تتناوب الحضور. هايل العبيديين، نموذج على الإقبال والاقتحام الذي لا بديل عنه، لتتويج فرد ما، نجمًا ومركزًا مُشِعًا في دائرة أية مجموعة، يمسك أطراف الحديث وعنانه، بنعومة ولا يرخيه أو يعطيه إلا بصعوبة، فقد كان أبو عمار قادرًا على إدارة حديث طريف شيّق يفجّر الخواصر من الضحك !!
لا يمكن ان يفوّت فرحا دون أن يحضر، ولا ترحًا دون أن يحضر، وكان هايل يطلب ان يحمله ابناؤه واخوانه، على سرير المستشفى، لحضور عزاء أو لحضور عِرس. وأكاد أقول ولا أبالغ أن نصف عدد أبناء الأردن يعرفون هايل، وان هايل يعرفهم كلهم.
من الذي يصنع القادة الشعبيين: أصالة المجتمع وتراثه العريق ؟. أم المجالس التي يعتبرها الأردنيون أهم المدارس؟
أم التحديات النوعية المختلفة التي تواجه الجماعات، فيطلع منها قائد واحد كل بضع سنين ؟ أم هو التكوين المجتمعي والعشائري والمنزلي الذي يصوغ مجتمِعًا، وينتخب شخصًا بعينه، ليبرز ويقود، ويكون الساري والرائد الذي لا يكذب اهله ولا يخذلهم ؟ ولا يمكن أن تظل الناس بلا رأس، تأسيًا بقول أبي الأسود الدؤلي: «لا يَصلُحُ الناسُ فَوضى لا سَراةَ لَهُم».
لقد ذهب هايل العبيديين القائد الاجتماعي النابه الذهين، بعيدًا بعيدًا، ذهب إلى رحمه الله وغفرانه، وقد ترك حسرة في القلوب وعبرات لا تقلع !!