محمد محيسن
في زمنٍ ارتجفت فيه حتى مفاصل الحديد والفولاذ، وصدأ فيه الذهب، وفسد فيه الملح والرمل والحجارة، وخارت فيه قوى الجبابرة، وخانت الأصابع بعضها البعض، بقي هذا الطبيب الفلسطيني نموذجًا للصمود، يضرب مثلًا عظيمًا للبطولة والتحدي. لهذا، لن أستغرب إذا وصفه العرب يومًا ما بأنه أثبت من أبي صفية.
وفي لحظات توقفت فيها نبضات الرجولة والمروءة، حيث تتساقط الأقنعة وتكشف العقول عن عجزها، يبقى هذا الطبيب الفلسطيني الصامد أملًا وسط ظلامٍ حالك. في مشهدٍ قلما نجد له مثيلًا في التاريخ، يحمل هذا البطل على عاتقه أعباء التحدي والصبر، متحديًا الموت ليكون رمزًا للإنسانية التي غابت وبقيت مجرد ذكرى.
ورغم كل القسوة التي تلحق بشعبه، لا يزال هذا الطبيب يسعى وراء الشفاء، لا يفرط في واجبه المهني ولا في مسؤوليته تجاه رفاقه في غزة.
أصيب في قصف جوي استهدف المستشفى، فلملم جراحه وواصل عمله غير مكترث بوضعه الصحي. رفض مغادرة القطاع حتى بعد استشهاد ابنه إبراهيم، مصممًا على مواجهة الإبادة الجماعية التي تطال المدنيين من أبناء شعبه في غزة.
ما هذا السر الذي تحمله بين قلبك والحشى، أيها الطبيب البطل؟ وما هي القوة الخفية التي مكنتك من دفن ابنك بردائك الأبيض المعطر بدماء الشهداء؟
لقد جرح أبو صفية، ولكن روحه لم تجرح ولم تنكسر، بل ازداد عزمه وإصراره. هو الذي جعل من جسده ساحة للتضحية والبطولة، ليتحول إلى مثال حي لكل إنسان يعاني من قسوة الحياة.
لا أحد يستطيع أن يفهم السر الذي يربط قلبه بحياة الناس سوى هو، ولكن المؤكد أن الأمل في عيون مرضاه وراحتهم بعد الألم كانت دائمًا وقوده في هذه الحرب الشرسة. في وقتٍ باتت فيه الأقدار تكتب نهايات مأساوية، يبقى هذا الطبيب شاهدًا على حقيقة واحدة: أن الإرادة أقوى من أي قيد، وأن التحدي لا يموت مهما طال الزمن.
ولِد حسام أبو صفية في 21 تشرين الثاني 1973 في مخيم جباليا بمدينة غزة لعائلة هُجرت من بلدة حمامة إثر النكبة عام 1948.
و هو استشاري طب أطفال فلسطيني، شغل منصب مدير مستشفى الشهيد كمال عدوان في قطاع غزة حتى اللحظات الأخيرة قبل أن يُحرقه الاحتلال.
يُعد من الشخصيات البارزة في القطاع الصحي، ويعمل على قيادة الفرق الطبية لتقديم الخدمات الطبية لسكان غزة.
نال شهادة البورد الفلسطيني في طب الأطفال وحديثي الولادة.
اُعتقل في أواخر شهر تشرين اول 2024 خلال اقتحام القوات الإسرائيلية لمستشفى كمال عدوان، حيث أُجبر الكادر الطبي على المغادرة. وبعد الإفراج عنه، تلقى نبأ استشهاد طفله إبراهيم نتيجة قصف القوات الإسرائيلية لمكان تواجده بتاريخ 26 تشرين اول 2024.
في 23 تشرين ثاني 2024، أُصيب أبو صفية جراء إلقاء قنبلة عليه من طائرة كوادكابتر إسرائيلية أثناء عمله داخل المستشفى، ما أدى إلى إصابته بستة شظايا اخترقت منطقة الفخذ وتسببت في تمزق الأوردة والشرايين. ورغم شح الإمكانات وغارات الاحتلال المكثفة، قاد أبو صفية فريقه الطبي لإنقاذ مئات الجرحى. وبقلب صامد، واصل يواسي المرضى والزملاء بروحه الإنسانية، مما جعله يحظى بلقب “طبيب برتبة بطل”.