“الأبوان وأولياء الأمور الأعزاء الكرام، تدريب الأطفال والأبناء على الحضور إلى المسجد أمر مستحب في الإسلام، إلا أن الإسلام يعلمنا ويحثنا كذلك على احترام الآخرين والالتزام بالآداب الإسلامية في جميع الأوقات والأحوال، لذا يرجى منكم مراقبة تصرفات أطفالكم عند إحضارهم إلى المسجد. شاكرين لكم حسن تعاونكم”.
عندما تدخلين من الباب الرئيسي لمسجد سلطان حاج أحمد شاه، بمنطقة جومبأ في العاصمة الماليزية كوالالمبور، تطالعين لوحة معدنية كبيرة قد كتبت عليها العبارات السابقة بالعربية والإنكليزية والمالوية، وما يلبث نظرك أن يسبقك إلى ساحة مصلى النساء بالدور الأول، حتى يؤكد لك ما جاء في هذه اللوحة. إذ تزين المصلى بوجوه الصغار المرافقين لأمهاتهم، وقد ارتدين الحجاب الماليزي التقليدي بألوانه المبهجة وتصميمه المميز، حسب هافينغتون بوست عربي”.
الجميل في هذا المشهد، أن ذلك الإعلان لم يذهب أدراج الرياح، فلا روائح أطعمة أو مخلفات أطفال داخل المسجد. الابتسامة والبهجة تعتلي الوجوه البريئة الصغيرة دون أن تسفر عن ضجة أو صخب، يقلدون الكبار أحياناً في الصلاة، ويلهون أحياناً أخرى مع بعضهم البعض أو مع عائلة القطط الوادعة في سلام على عتبات المسجد، ولكن لا ضيق هناك ولا ضجر من وجودهم.وقتها يقفز إلى ذهنك سؤال: كيف استطاعت الأمهات الماليزيات تحقيق هذه المعادلة الصعبة، والتي تحول بين كثير من الأمهات العربيات وصلاة التراويح، بسبب ما يسببه أطفالهن من ضجة في المسجد، أو رفض إدارة المسجد والمصلين اصطحاب الأطفال؟ وللإجابة عن هذا السؤال إليك الوصفة الماليزية على لسان الأمهات أنفسهن..كانت أول من لفت انتباهي لفكرة هذا التقرير، بأطفالها الستة الذين يمرحون حولها، بينما السابع يثبت وجوده من خلال ذلك البروز الواضح في بطنها، معلناً قرب خروج المولود الجديد للحياة، ورغم ذلك انتصبت واقفة في سكينة خلال صلاة التراويح.نور الهدى بنت إسماعيل، التي لم تتجاوز السادسة والثلاثين من عمرها، راحت تروي تجربتها المميزة لهاف بوست عربي قائلة:”تزوجت في عمر الـ23 عاماً، لدي 6 أطفال، أعمارهم بين 12 إلى 4 أعوام، ولم أتوقف عن صلاة التراويح في أي عام بسبب أطفالي، إلا في مرة واحدة فقط، حيث وضعت خلال شهر رمضان ولم يكن عليّ صلاة”.تضيف: “لم أفكر مطلقاً هل عليَّ أن أصطحب أطفالي للمسجد أم لا، فهي مسألة بديهية ومحسومة بالنسبة لي، وبالتالي كل ما كنت أفعله هو أن أقوم بواجبي فقط لإعدادهم لذلك، كما أعدهم لأي شيء آخر في الحياة، فنغتسل ونتوضأ قبل الذهاب للصلاة، وآخذ معي ما يلزمهم من احتياجات تناسب أعمارهم، وإذا كانوا قد بدأوا الحركة والكلام، أتحدث معهم عن آداب المسجد وأهميتها”.وعن زوجها تقول: “يصطحب زوجي الصبية معه (إذا صاروا أكبر من 5 سنوات) وأصطحب الفتيات. من أراد من الأطفال أن يصلي يقف بجوارنا، ومن أراد أن يلعب يذهب لمؤخرة المسجد ليشارك الأطفال الآخرين المرح”، وتردف: “طبيعي أن يكون لكل طفل ملابس صلاة، يحرص بنفسه على تنظيفها كل يوم والاعتناء بها وارتدائها عند الذهاب للمسجد، فأنا أريدهم أن يعرفوا كيف يصلون، ويتعايشون مع هذه البيئة الروحية في المسجد خلال رمضان”.تجدر الإشارة إلى حرص الماليزيين بشكل عام على الاغتسال يومياً قبل الذهاب للعمل وبعد العودة منه، وقبل الذهاب للمسجد، وتوضح نور الهدى ذلك بقولها: “يكون المسجد مزدحماً بالمصلين، فمن المهم أن حافظ على الاغتسال قبل الذهاب حتى لا نضايق الآخرين برائحة العرق الغزير الذي تسببه طبيعة الجو في بلادنا”، مشيرة: “هذه أيضاً من الأسباب التي تجعلني أفضل مسجد حاج سلطان أحمد، حيث يضم أماكن للاغتسال خاصة بالقسم النسائي، فتستطيع المعتكفات وغيرهن الاغتسال خلال وجودهن في المسجد، وكذلك أطفالهن”.”هذا هو المسجد.. أريد أن يعرفه أبنائي وتتعلق قلوبهم به، ويتعرفوا على آدابه وعلى الحياة الاجتماعية والروحية فيه”، تفتتح فرحانة بنت إسلام (30 عاماً) حديثها لهاف بوست بهذه الكلمات، مضيفة: “لدي ثلاثة أبناء، تتراوح أعمارهم بين 8 و5 سنوات، اعتدت أن أصطحب البنتين معي، بينما يرافق الصبي والده في مصلى الرجال”.تتابع: “لم أجد صعوبة مطلقاً في اصطحاب أطفالي معي للمسجد، فأنا أحب أن أعودهم على قيمة صلاة الجماعة، والارتباط مع المجتمع المسلم منذ الصغر، وهذا الأمر لا يأتي إلا بالمعايشة، خاصة في أجواء رمضان، وقد تعوَّد أطفالي على المسجد، حتى صاروا ينتظرون هذه الفرصة ويستمتعون بالحضور، وإذا قررت معاقبة أحدهم، فيكون بعدم اصطحابه معي للمسجد”.وعن كيفية تهيئتها أطفالها لتلك الخطوة تقول: “أحضر لهم بعض الكتب والقصص المصورة، وكذلك الألعاب البسيطة، ليتمتعوا باللعب والقراءة في المسجد كما يستمتعون بالصلاة، ودئماً أذكرهم خلال الطريق بآداب المسجد، وخاصة التحدث بصوت خفيض، والحقيقة أن هذه الصفة تحديداً يجب أن ينشأ الأطفال عليها في البيت قبل أن نطالبهم بتطبيقها، فهي نمط حياة اعتاده الماليزيون كباراً وصغاراً في حياتهم اليومية. فالقرآن يعلمنا (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ).. فكيف أطالب طفلي بتطبيق سلوك وأنا لا أطبقه في حياتي؟!”.تركت طفلها المريض ذا الثماني سنوات في رعاية أمها، حتى تصطحب طفلتها ذات الخمس سنوات إلى صلاة التراويح في المسجد، حيث ترى دليلة (31 عاماً) أنه لا بأس من تقسيم الأدوار لبعض الوقت، نظراً لأهمية صلاة التراويح في المسجد خلال رمضان، لها بشكل شخصي، وفي تنشئة أطفالها بشكل عام.تقول دليلة: “أحب أن أعلمهم ما هو رمضان من خلال التواجد في صلاة التراويح، ليس فقط التراويح، بل والاعتكاف أيضاً، فقد اعتدت أن أصطحبهم معي خلال الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، نقضي اليوم كله في المسجد منذ العصر حتى شروق الشمس، وبفضل الله لا أجد صعوبة في ذلك، حيث تعود أطفالي كيف يتصرفون في المسجد”.وترفض دليلة ما يجري في بعض المساجد من اعتراض المصلين على تواجد الأمهات الشابات بأطفالهن الصغار، قائلة “لو الأطفال لم يختبروا هذه التجارب وخاصة في رمضان، فأين ومتى وكيف سيتعلمون كيف يحترمون الآخرين، ويضبطون تصرفاتهم عندما يحتاج الأمر لذلك، لا يمكن أن نمنع حضورهم، لأنهم لن يتعلموا إلا من المعايشة الواقعية”.وترى أنه “نعم على الدولة تهيئة المساجد الملحقة بالمرافق المناسبة، ولكن أيضاً هذا ليس شرطاً، فهذه مسألة تتعلق بثقافة المجتمع لا بمساحة المسجد وشكل البناء”، مردفة “الأبوان عليهما أن يعلما أبناءهما السلوك المناسب، والصبر عليهم، لأنهم أطفال، وطبيعي أن يلعبوا ويتشاجروا، ولكن الأهم هو ثقافة المجتمع التي تتفهم أهمية إدماج الأطفال في مثل هذه المواقف، فالمسجد ليس للصلاة وفقط، هو مركز لحياتنا كمسلمين، هذا مكان لإثراء حياتهم الروحية، وتعليمهم الكثير من الأمور، وتنمية سلوكهم الاجتماعي”.”لو منعنا الأطفال من المجيء للمسجد، فهل الأفضل لهم أن يذهبوا لأماكن أخرى تتقبلهم؟!!”، تختتم دليلة حديثها بتساؤل للجميع.