ايمن الشبول
صعدت لإحدى حافلات النقل الداخلي العمومية ، كانت الكراسي ممتلئة بالركاب ، فأشار لي السائق بالجلوس إلى جواره وفي وضعية„ مواجهة„ للركاب .
وجلس في مواجهتي رجل عجوز تجاوز السبعين من عمره ؛ وحنت الدنيا ظهره وغطت التجاعيد وجهه وقلبه . وبدا من هيئته المتعبة بأنه عاصر كل نكبات ونكسات وهزائم وويلات ومصائب وأحزان ومآسي العرب …
وصل مذيع نشرة أخبار العاشرة صباحا” إلى قرآءة أسماء المتوفين في ذلك اليوم … لم يبالي أغلب الركاب الشباب لنشرة أخبار المتوفين المقروءة ، ولم يلتفتوا لعبارات المذيع ولترحماته على الموتى … ولكن الرجل العجوز أنصت من قلبه وخشع واستمع لكل إسم تلاه المذيع وترحم عليه … بدا العجوز وكأنه طالب يترقب أسماء معارفه وبتابع أسماء زملاءه المتخرجين من جامعة الحياة … ! أنصت العجوز وعنده التوقعات والشكوك الكبيرة بأن يصادف بعضا” من زملاءه أو معارفه بين أفواج المتوفين … !!!
صحيح بأن بعض المتوفين كانوا أصغر منه سنا” ، وبعضهم كانوا أكبر منه … ؛ ولكن غالبية الأسماء اقتربت منه وحامت حول عمره … !!!
وكلما قرأ المذيغ أسماء” لمتوفين يكبرونه ، تنهد وتنفس وانتشى ؛ وظهرت عليه علامات السرور والبهجة ، وكم كانت فرحته عظيمة ، حينما قرأ المذيع أسما” لمتوفى فارق الدنيا وهو في منتصف التسعينات من عمره … !!! … إبتسم العجوز لهذا الخبر المفرح وهو يردد في نفسه : ( ربما حققنا الآمال المعقودة ؛ فما زال في العمر بقية … !!! ) ؛ وإن قرأ المذيع أسماء” لمتوفين يصغرونه ؛ ظهر على وجهه الخوف والضجر ؛ وتذكر ساعة الموت القريبة وهو يردد في قلبه : ( لم نحقق الآمال المعقودة .. وما عاد في العمر بقية … !!! ) .
إنني أتذكر أحد أقاربي ـ رحمه الله ؛ كان في الستين من عمره ؛ وأدخلوا له اسمه في برنامج للكمبيوتر يتوقع أعمار الناس من تواريخ ميلادهم … !!! ؛ وكم كانت فرحة قريبي كبيرة جداء” حينما تنبأ له البرنامج أن يعيش ويصل لثلاثة„ وسبعين سنة … !!!
قال قريبي بكل فرح : يااااه ـ ياااااه …. بقي من عمري ثلاثة عشرة سنة …!!! بدت السنوات الموعودة في عيون قريبي بعيدة جدا” … ! ولكن الحياة مرت عليه و علينا بسرعة كبيرة جدا” … وتوفي قريبي المبتهج زالفرح بسنواته الموعودة عن خمسة„ وسبعين سنة … !!!
يا إبن آدم ؛ ولدت وانتظمت في جامعة الحياة ، واسمك في كتاب الخريحين نزل ، فلا يغرنك الشيطان بطول الأمل … !!!