أ. سعيد ذياب سليم
حالة صيف
الرطوبة الشديدة والحرارة العالية، صنعت من العرق والغبار مادة لزجة تغمر الجسم، وتغلق مساماته، وتتكثف في الصدر، شمس تلسعك سياطها، وأزمة سير تلقي بكاهلها على الطرقات، ضجيج السيارات يقودك إلى الجنون، صيف خانق، إذا قصدت مكانا معينا، تجد نصف سكان المدينة يسيرون معك، و كأنكم على ميعاد.
تسير بسيارتك مراقبا مؤشر الحرارة، خوفا من أن تقع في ورطة إضافية، كثير هم الواقفون على جوانب الطريق، تنحني رؤوسهم باتجاه محركات سياراتهم، ينظرون من خلال الدخان في يأس، صوت صاخب يتدفق في شرايينك، وصداع يضع على عينيك غشاوة تصعب من خلالها الرؤيا ، كيف هو الخلاص ؟
بين أمواج السراب الذي يلوح في الفضاء القريب، تبدو ملامح الوجوه مرهقة، كأنها أقنعة بلاستيكية، غارقة في بحر متلاطم من التلوث الصوتي و غازات عوادم السيارات، أناس يسيرون على عجل، من فيء لآخر، يتركون الرصيف ويغامرون بالسير في وسط الشارع، كأنهم أضاعوا البوصلة تتحكم بهم أقدامهم، تزعق حولهم أبواق السيارات، تكاد تسمع الشتائم من أفواه سائقي المركبات، شاب يجر فتاة، يحرك يده الأخرى بعصبية، متحدثا عن مشكلة ما، ربما وعوده التي لا يمكن تنفيذها، اندفاع هرموني يتدفق في شرايينه يعميه عن حرارة الجو، وهي منصتة تلوذ برائحة عطر رخيص فشل في مقاومة هذه الروائح المجتمعة.
يافطات تهاجم مساحة الرؤيا، تحمل وعودا وتعرض بضاعة أصحابها، ياقات بيضاء، وأربطة عنق ملونة، وابتسامات ودودة ، ديكورات لموسم انتخابي آخر، أحدهم يعد بحل أزمة السير. أين منا موسم التين و العنب ؟
ماذا تصنع هذه الموجات الحارة بعواطفنا؟ ما تأثيرها و نحن لا نملك أعصابا فولاذية؟ لا بد لنا من واقيات نحمي بها أنفسنا من عواصف الشمس، لا بد لنا من أخذ الاحتياطات اللازمة لمواجهة هذه الأجواء، ماذا لو أقمنا في الفضاءات حولنا منصات لتحويل هذه الطاقة الشمسية إلى طاقة كهربائية، تمكننا من تشغيل مكيفات هوائية نزرعها في محطات استراحة على الطرقات، تجعل من الحياة أكثر سلاما و بهجة، لا شك أنها فكرة مجنونة، لا بد أنه الجو و تأثيره!
بالأمس كان الصيف جميلا، كانت المسافات قصيرة، لا تخرجنا من حاراتنا الضيقة، و إن حدث وخرجنا، تنقلنا حافلات بقروش قليلة، كانت الطرق أقل ازدحاما، وكانت الأجواء أكثر صفاء و أقل ضوضاء وعنفا، كنا نقاوم حر الصيف بحبة البوظة، وكأس الخروب ، ودهشة الطفولة، كانت العيون تلتقي في خفر و حياء، لتوصل رسائل حب هادئ بريء، كانت الأشجار أكثر خضرة وكان للظل لون آخر، كانت الأكاذيب كلها بيضاء لم تكن تعرف الألوان بعد.
كنت تظن أنك ستصل في نصف ساعة، لكن المشوار أخذ منك أضعاف ذلك، وشطرا من قوتك، وبعض أمنياتك، وكثيرا من اللوم. في المرة القادمة ستغير الطريق، لتلتقي مرة أخرى بنفس ألوان المعاناة، حتى لو اخترت وقتا آخر من ليل أو نهار، لن تكف عن المحاولة، هو الحب إذن، نعشقها، مدينتنا الواقعة على حافة الصحراء، واحة تمر بها كل القوافل.
في هذا القيظ يختبئ الحب خلف نظراتنا الحادة، وخلف قسمات وجوهنا التي لوحتها الشمس، لكنه في المدن البعيدة التي يغطيها الضباب، تجده سائرا أو جالسا تحت المطر، تصطدم به صدفة، يدخل حياتك، يشكّلها ويصيغها على طريقته دون عناء، يشاركك اهتماماتك ، يجادلك، يعارضك، لكن في النهاية تجلسان ترتشفان كأسيكما بتلذذ.
للحياة في مدينتنا منظومة قيم، و مساحات خضراء، تدعونا إليها لنحتفل بالصيف، رغم موجاته الحارة، توزع علينا الصُدف والحب إحداها، تنثرها في الحدائق العامة، في شارع الأعمدة، وفي المدرجات، وعلى الشواطئ، فالمساء له سحره، وللمكان أسراره وخصوصيته، وللوطن سياجه. أ.سعيد ذياب سليم