د. زيد حمزة
بدأنا نعرفها ونتشوق لرؤيتها ترقص بعد أن قرأنا عنها في اربعينيات القرن الماضي في المجلات المصرية التي كانت تصل الى شرق الاردن أما اسمها فكان تحية كاريوكا نسبة لرقصة الكاريوكا البرازيلية في كارنفال ريو السنوي الاكبر والأجمل في العالم في نظري، ثم بتنا نشاهدها في الافلام السينمائية حين غدت في وقت قصير الراقصة المصرية الأبرع والاكثر شهرة على المسرح الاستعراضي الذي كانت تملكه وتديره في قلب القاهرة الفنانة اللبنانية بديعة مصابني، وسعيت لارتياده في السنة الاولى من دراستي هناك عام 1948 فادهشني رقص تحية كاريوكا الشرقي الجميل وسحرتني ابتسامتها الجذابة فيما يشبه ما حدث بعد سنوات قليلة للمفكر الكبير إدوارد سعيد حين كان تلميذا في مدرسة مصرية فكتب عنها عام 1990 أي بعد مرور وقت طويل على احاسيس المراهقة الملتهبة مقالاً في London Review of Booksأشاد برقصها وقال انه مرتبط عميقاً بالحضارة المصرية العريقة وحب المصريين للفنون اللصيقة بحياتهم كما هو حبهم وتعلقهم بامرأة عظيمة أخرى هي أم كلثوم..
بلغ عدد الافلام السينمائية التي شاركت فيها تحية كاريوكا رقصاً وتمثيلاً قرابة المئتين عدا عن خمس مسرحيات كان آخرها المسرحية السياسية (يحيا الوافد) التي لاقت تقديراً ورواجاً كبيرينً، وتزوجت خمس عشرة مرة كانت الخامسة من الضابط مصطفى كمال صدقي الذي اعتقل بعد ثورة 1952 لاسباب سياسية وكانت اثناء زياراتها له في السجن تهرّب الرسائل السرية الى معتقلين سياسيين آخرين وقد قيل وقتها عن نشاطها السياسي الوطني أنها كانت تعمل مع منظمة (حدتّو) الشيوعية ما أدى الى اعتقالها اكثر من مرة وارتقى بمكانتها بين الناس. لم اجتمع بها شخصياً الا مرة واحدة بالصدفة في عيادة المرحوم الدكتور عدنان هلسا طبيب العيون وكانت قد تقدمت في السن، فبعد ذلك بسنوات قليلة (1999) توفيت عن ثمانين عاماً خاضت اثناءها معارك عديدة دافعت فيها عن فن الرقص الشرقي بشدة وحماس وفندت اتهامه بانه مسخر فحسب لاثارة الشهوات والغرائز الجنسية وكانت تذكّر دوماً بأنه جزء اصيل من تاريخ الفنون عند المصريين منذ آلاف السنين وهو ما أثبتته اللوحات الملونة الجميلة المحفورة على جدران الآثار والمعابد الفرعونية وهي تصوّر الراقصات والراقصين يؤدون رقصاتهم في الطقوس الدينية والمناسبات والاحتفالات العامة في حياة قدماء المصريين.
كانت تحية كاريوكا مثقفة تجيد اكثر من لغة، وحين اثيرت قضية (الفن للفن أم الفن من اجل الحياة والمجتمع) بين مثقفي خمسينيات القرن الماضي انتصرت للفهم الأول، وفي مناقشات الكتاب والصحفيين كانت ترفض مقارنة الرقص الشرقي بالباليه وتقول إن لكل منهما جمالياته ولا يجوز تفضيل احدهما على الآخر الا بحسن الاداء وشدة الامتاع ثم القدرة على الاقناع بأنه الاقرب الى مشاعر الناس والاصدق تعبيراً عن فكرهم وآمالهم.. وتكرر في تلك المناقشات بأن لكل شعب فنونه الاصيلة الممتدة جذورها في ثقافته المجتمعية عبر الاجيال.
وبعد.. ليس غريبا أن نتحدث اليوم عن الراقصة تحية كاريوكا كنموذج لفنانة صنعت لنفسها بين جمهورها العريض قيمةً فنية ثقافية انسانية لا تنسى ومتعةً مازلنا ننعم بها حتى الآن ونحن نشاهد افلامها المعادة بعد ستين عاما ونيف، وحتى لا نحوّم بعيداً عن واقعنا ينبغي أن نتحلى ببعض الشجاعة كي نعترف بان سيرة حياتها تذكرنا بما آلت اليه مكانة الفنون عموماً في اكثر مجتمعاتنا وكيف تردّت منذ نصف قرن على الأقل بعد تحريمها في مؤسساتنا التعليمية لاسباب معروفة ثم اخيراً بعدما رأينا المتشددين والمتطرفين في تنظيم الدولة (!) يكشفون عن مفاهيمهم المتخلفة الغبية فيدمرونها ويجرّمونها في المجتمعات التي سيطروا عليها حيث لا رسمَ ولا رقصَ ولا موسيقى ولا غناء ولا نحت ولا تمثيل ولا مسرح ولا سينما.. فأي جفاف عاطفي، بل عقلي، أبشع من هذا ؟!