أ. سعيد ذياب سليم
اغتراب
البراعم الصغيرة، وثغر الزهرة البيضاء، تجلب معها الفرحة عندما تفاجئك صباحا ، مثلها مثل زرقة السماء، ولون الغيم و صوت العصافير، والفراشات الصغيرة التي تقضي حياتها القصيرة راقصة حول الضوء.
بعكس الطرقات الخالية مساء، التي ينقبض لرؤيتها القلب، و يغمرك الاحساس بالوحدة، تُذكّرك أن من ينتظرك، هو رفيقتك السمراء بمرارها، ترتشفها من فنجانك ، وتبحث في بقاياه عن بقايا الأمس، فكم دفنت في قعره من خيبات! ربما ينبلج سواده عن وجه أحببته قديما، يرسل إليك نظراته التي ترى فيها سخرية الاقدار، تحاصرك الوِحْدة ، تسد عليك الأفق، تغلق نافذتك، تتمدد على سريرك، تسرح في شقتك، تتملكك كحالة عشق.
لم تعد المواقع الاجتماعية و الفضاء الافتراضي، يخفف عنك حدتها كما كانت، بات ما يُنشر عليها بلا حياة و يفتقر للمعنى، وما تراه من صور “السلفي” البلهاء ، يزيد من معاناتك، حتى المساحات الخضراء و المناظر الطبيعية، التي لا تنكر العين جمالها، خالية، ليس من أحد يحتفل بجمالها، و العلاقات التي صنعتها عبر هذه الفضاءات، مسطحة، عواطفها كاذبة، بعيدة عن الواقع مهما بدت حميمة.
منذ متى لم تر الأصدقاء؟ وهل ما زلت تحتفظ بالبعض منهم؟ لا أسألك عن زملائك أو زميلاتك في العمل، و إنما أولئك الذين تبحث عنهم عندما يفاجئك الحزن، أو يطير بك الفرح. هل تذكر جلسات “الكفيتيريا” ؟ والمشي في الطرقات ، المقالب البريئة ، وحفلات السينما المتأخرة ليلا ؟ كل ذلك انتهى ومن كان له الفضل في ذلك؟
عندما أخذت السنوات بأيدينا إلى النضج و عالم الكبار، تركنا خلفنا مرح الطفولة، والصداقات التي عشنا بها عمر البراءة الجميل، سني الدراسة ، الرفقة التي واكبت تجاربنا بما فيها من صواب أو خطأ ، أصبح لنا نظرتنا إلى الحياة، و كتاب أسرارنا الخاص، خبّأنا مجلاتنا المصورة ، في دولاب الذاكرة القديم، مع قصص “المغامرين الخمسة”، و مزقنا عناوين أصدقائنا، هل لنا بفرصة أخرى نعايش ذلك غير الندم؟
ربما انغلاقنا على أنفسنا، أفقدنا مهارة التواصل الاجتماعي، وصدق المشاعر، و طرح الآراء، وبتنا ننظر إلى الآخر نظرة حذر، فإذا تحدثنا كانت كلماتنا صراخا، وكانت مواقفنا معادية دونما سبب، وكأنها الطريقة المثلى للدفاع عن النفس، والاحتفاظ بنجاحاتنا، أوصلنا ذلك إلى جزر في أعالي البحار، لا تصل إليها السفن، تقتلها الوحدة و الشوق إلى علاقة إنسانية دافئة.
لا تعتبر أنها مشكلتي الخاصة، تعال فلننظر إلى عالم خال مما اعتدنا عليه، كتبنا المفضلة التي نقرأ، وتشغلنا عن النظر حولنا، صحفنا اليومية بما فيها من كلمات متقاطعة، و حديث الأبراج، أجهزة تشغيل الصوتيات و المرئيات المختلفة، من “راديو” و “تلفزيون” و “انترنت”، ربطة العنق المفضلة، وطريقتنا التي نصافح بها الحياة، ماذا يبقى لنا غير مذاق القهوة؟
نحن من اخترنا أن نعيش بهذه العزلة، نحن من بنينا هذه الجدران، خوفا من خيبات جديدة، ربما لم نعد نتحدث باللغة التي يتحدث بها الكون، فصنعنا عالمنا هذا ، أحادي اللون و الخاص بنا. فمن ينقذنا من العزلة؟