الدكتور فخري النصر
القدس هي مدينة الانبياء والرسل عليهم الصلاة و السلام ,ومدينة الصالحين واولياء الله في الارض , وما من نبي او رسول الا مر بها , فقد اسري اليها نبي الامة محمد صلى الله عليه وسلم ليلاء من مكة المكرمة (المسجد الحرام ) الى القدس (المسجد الاقصى ) ليعرج الى السموات العلى , ويصلي اماما بجميع الانبياء والرسل عليهم السلام قال تعالى : سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ”. (الإسراء: 1)،صدق الله العظيم .
ويرجع تاريخ مدينة القدس إلى أكثر من خمسة آلاف سنة قبل الميلاد ، وهي بذلك تعد واحدة من أقدم مدن العالم, فسماها الكنعانيون في الألف الثالثة قبل الميلاد “أورساليم” وتعني مدينة السلام، ثم عرفت في العصر اليوناني باسم إيلياء ومعناه بيت الله ,وسكنها قبيلة اليبوسيين -أحد البطون الكنعانية العربية- 2500 ق.م فأطلقوا عليها اسم يبوس.
وخضعت مدينة القدس للنفوذ المصري الفرعوني بدءا من القرن 16 ق.م , وحكمها اليهود73 عاما في العصر اليهودي (977-586 ق.م) فقد سماها النبي داود عليه السلام مدينة داود وسكنها 40 عاما , ثم سكنها النبي سليمان عليه السلام 33 عاما وسماها اورشليم .
وفي العصر البابلي (586 – 537 ق.م) احتل الملك البابلي نبوخذ نصر الثاني مدينة القدس بعد أن هزم آخر ملوك اليهود صدقيا بن يوشيا عام 586 ق.م، ونقل من بقي فيها من اليهود أسرى إلى بابل بمن فيهم الملك صدقيا نفسه . وسكنها الفرس في العصر الفارسي (537 – 333 ق.م) ثم سمح الملك الفارسي قورش عام 538 ق.م لمن أراد من أسرى اليهود في بابل بالعودة إلى القدس.
وفي العصر اليوناني (333 – 63 ق.م) استولى الإسكندر الأكبر على القدس، وبعد وفاته استمر خلفاؤه المقدونيون والبطالمة في حكم المدينة، واستولى عليها بطليموس وضمها مع فلسطين إلى مملكته في مصر عام 323 ق.م , ثم في عام 198 ق.م أصبحت تابعة للسلوقيين في سوريا بعد أن ضمها سيلوكس نيكاتور، وتأثر السكان في تلك الفترة بالحضارة الإغريقية.
واستولى قائد الجيش الروماني بومبيجي Pompeji على القدس عام 63 ق.م وضمها إلى الإمبراطورية الرومانية وأمر بتغيير اسم المدينة إلى “إيلياء” واشترط ألا يسكنها يهودي , واعتبرها عاصمة الإمبراطورية الرومانية ، وأعلن المسيحية ديانة رسمية للدولة فكانت نقطة تحول بالنسبة للمسيحيين في القدس حيث بنيت كنيسة القيامة عام 326م.
واغار الفرس على القدس ونجحوا في احتلالها مرة اخرى في الفترة من 614 إلى 628م، ثم استعادها الرومان مرة أخرى وظلت بأيديهم حتى الفتح الإسلامي عام 636م , وانتعشت وازدهرت في هذا العصر , وفي عام 621 م تقريبا شهدت القدس حادثت الاسراء والمعراج ,و زيارة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فقد أسري به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم صعد إلى السماوات العلى.
ودخل الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مدينة القدس سنة 636م /15 هـ بعد أن انتصر الجيش الإسلامي بقيادة أبي عبيدة عامر بن الجراح على الرومان ، واشترط البطريرك صفرونيوس أن يتسلم عمر المدينة بنفسه فكتب معهم “العهدة العمرية” وهي وثيقة منحتهم الحرية الدينية مقابل الجزية. وغير اسم المدينة من إيلياء إلى القدس، ونصت الوثيقة ألا يساكنهم أحد من يهود.
واتخذت المدينة منذ ذلك الحين طابعها الإسلامي واهتم بها الأمويون (661 – 750م) والعباسيون (750 – 878م), وشهدت نهضة علمية في مختلف الميادين. ومن أهم الآثار الإسلامية في تلك الفترة مسجد قبة الصخرة الذي بناه عبد الملك بن مروان في الفترة من 682 – 691م، وأعيد بناء المسجد الأقصى عام 709م، وشهدت المدينة بعد ذلك عدم استقرار بسبب الصراعات العسكرية التي نشبت بين العباسيين والفاطميين والقرامطة، وخضعت القدس لحكم السلاجقة عام 1071م.
وسقطت القدس في أيدي الصليبيين عام 1099م بعد خمسة قرون من الحكم , وقتل الصليبيون فور دخولهم القدس قرابة 70 ألفاً من المسلمين وانتهكوا المقدسات الإسلامية. وقامت في القدس منذ ذلك التاريخ مملكة لاتينية تحكم من قبل ملك كاثوليكي فرض الشعائر الكاثوليكية على المسيحيين الأرثوذكس مما أثار غضبهم , واستطاع صلاح الدين الأيوبي استرداد القدس من الصليبيين عام 1187م بعد معركة حطين، وعامل أهلها معاملة طيبة، وأزال الصليب عن قبة الصخرة، واهتم بعمارة المدينة وتحصينها.
ولكن الصليبيين نجحوا في السيطرة على مدينة القدس بعد وفاة صلاح الدين في عهد الملك فريدريك ملك صقلية، وظلت بأيدي الصليبيين 11 عاماً إلى أن استردها نهائياً الملك الصالح نجم الدين أيوب عام 1244م , وتعرضت مدينة القدس للغزو المغولي عام 1243/1244م، لكن المماليك هزموهم بقيادة سيف الدين قطز والظاهر بيبرس في معركة عين جالوت عام 1259م، وضمت فلسطين بما فيها القدس إلى المماليك الذين حكموا مصر والشام بعد الدولة الأيوبية حتى عام 1517م.
ودخلت جيوش العثمانيين فلسطين بقيادة السلطان سليم الأول بعد معركة مرج دابق (1615 – 1616م) وأصبحت القدس مدينة تابعة للإمبراطورية العثمانية. وقد أعاد السلطان سليمان القانوني بناء أسوار المدينة وقبة الصخرة. وفي الفترة من عام 1831 – 1840م أصبحت فلسطين جزءًا من الدولة المصرية التي أقامها محمد علي ثم عادت إلى الحكم العثماني مرة أخرى. وأنشأت الدولة العثمانية عام 1880 متصرفية القدس، وظلت المدينة تحت الحكم العثماني حتى الحرب العالمية الأولى التي هزم فيها الأتراك العثمانيون وأخرجوا من فلسطين.
وسقطت القدس بيد الجيش البريطاني في 8 – 9/12/1917 بعد البيان الذي أذاعه الجنرال البريطاني اللنبي، ومنحت عصبة الأمم بريطانيا حق الانتداب على فلسطين، وأصبحت القدس عاصمة فلسطين تحت الانتداب البريطاني (1920 – 1948). ومنذ ذلك الحين دخلت المدينة في عهد جديد كان من أبرز سماته زيادة أعداد المهاجرين اليهود إليها خاصة بعد وعد بلفور عام 1917.
وفي عام 1948 أعلنت بريطانيا إنهاء الانتداب في فلسطين وسحب قواتها، فاستغلت العصابات الصهيونية حالة الفراغ السياسي والعسكري وأعلنت قيام الدولة الإسرائيلية. وفي 3 ديسمبر/ كانون الأول 1948 أعلن ديفيد بن غوريون رئيس وزراء إسرائيل أن القدس الغربية عاصمة للدولة الإسرائيلية الوليدة، في حين خضعت القدس الشرقية للسيادة الأردنية حتى هزيمة يونيو/ حزيران 1967 التي أسفرت عن ضم القدس بأكملها لسلطة الاحتلال الإسرائيلي , واليوم بعد مرور 100عام على وعد بلفور يأتي الرئيس الامريكي ترامب , ويعلن ان القدس الشرقية عاصمة اسرائيل وينقل السفارة الامريكية اليها متحديا كل 124 دولة تابعة للأمم المتحدة رفضت هذا القرار الجائر .
نعم، إنها القدس, قدس الاقداس …. مفتاح السماء, وبوابة الأرض إلى السماء , وبوّابة السماء إلى الأرض , إليها كان الإسراء، ومنها كان المعراج؛ فالقدس هي المحور الرئيسي لهذا القرن ومحور الصراع السلام العالمي على هذه الارض ، فلا سالم يهنئ بها العالم ان لم تخضع فلسطين والقدس الى السالم كما قال احد زعماء لعالم العربي الراحل ياسر عرفات .
والقدس هي مفتاح السماء , أي ان في سماء القدس باب من ابواب السماء من اجل الصعود الى الفضاء الخارجي كما اكد رواد الفضاء الروس ,و ان رحلات الفضاء الخارجي ومن اي مكان او بقعه على الارض تريد ان تنطلق للفضاء اذا كانت من امريكا او من اسيا حتى ولو من القارة القطبية للنفاذ الى الفضاء يسلكون نفس الطريق الذي أسرى فيه نبينا المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم في ليلة الاسراء والمعراج الى السماء من فوق المسجد الاقصى من فوق مدينة القدس.
واكد الدكتور علي منصور كيالي الباحث و الفيزيائي السوري أن أبواب السماء ذات حراسة مشددة لا يستطيع الجن و الشياطين المرور من خلالها ، بينما يستطيع رواد الفضاء الولوج من خلالها تسهيلاً منَ الحقً سبحانه لعـالَـم الأنس حتى يريهم آياته العظيمة في الآفاق كما أشارت الى ذلك الآية الكريمة :(وَ لَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) الحجر 14. وهذا يوكد أن السماء ليس فضاء مفتوحاً ، كما يعتقد البعض و إنما فيها أبواب لا يمكن العـروج إلاّ من خـلالها , وهناك أيه اخرى تقول :(وَ فُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا ) النبأ 19 .
و تمّت عملية المعراج من فوق القدس و لم تتم من مكة مباشرة ، وهذا يشيراً الى أنّ هناك بابٌ إلى السماء من فوق القدس ، و لم تكن تلك الابواب موجودة في سماء مكة ، وهناك سورة تسمى سورة الاسراء ، فالإسراء كما هو معلوم هي الحركة الأفقية ، و المعراج هو الحركة العمودية ، موضحاً أن الله سبحانه و تعالى رفع اثنين من أنبيائه الكرام منَ القدس ، و هما سيدنا عيسى و سيدنا محمد عليهما الصلاة و السلام ، وحتى أثناء عودة سيدنا محمد كانت أيضا من السماء إلى القدس أوّلاً ، و لم تكن إلى مكة المكرمة مباشرة ، و هذا لكونه بشر : (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ) فصلت 6 , وان عيسى عليه السلام سوف يعود الى الارض من فوق القدس , وتكون معركة النهاية في القدس الشريف .
وحادثة الاسراء والمعراج تدل على إعلان عن إسلامية هذه الديار، حيث فتحت روحياً وإيمانياً بمعجزة الإسراء والمعراج، لأن المعجزات تمثل جزءاً من العقيدة الإسلامية ,وربط القدس بمكة المكرمة رباطاً عقدياً وتعبدياً ,فالرباط العقدي يتمثّل بالإسراء، والرباط التعبدي لكون القدس القبلة الأولى، وأن مكة المكرمة قبلة المسلمين الثانية والأخيرة الثابتة، وأنّ شد الرحال بقصد التعبّد يكون إلى المساجد الثلاثة: “لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا والمسجد الأقصى”.
ومن فوائد الاسراء والمعراج في الاسلام هو: ربط القدس بالسماوات العلا من خلال المعراج، والله سبحانه وتعالى يقول: “والنجم إذا هوى، ما ضلّ صاحبكم وما غوى، وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، علّمه شديد القُوى، ذو مرّةٍ فاستوى، وهو بالأفق الأعلى، ثم دنا فتدلى، فكان قاب قوسيْن أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، ما كذب الفؤاد ما رأى، أفتمارونه على ما يرى، ولقد رآه نزلةً أُخرى، عند سدرة المنتهى، عندها جنّةُ المأوى، إذ يغشى السدرة ما يغشى، ما زاغ البصر وما طغى، لقد رأى من آيات ربّه الكبرى”. سورة النجم الآيات 1-18.
وربط السماء بالقدس من خلال أمريْن مهميْن، هما: صلاة الرسول محمد بالأنبياء عليهم السلام إماماً: فقد صلّى رسولنا الأكرم محمد (عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم) في ساحة المسجد الأقصى المبارك، وبالقرب من الصخرة المشرفة، إماما بالأنبياء الذين نزلوا من السماء، قبل أن تشرع الصلاة للمسلمين بشكل تفصيلي , وإن نزول الأنبياء من السماوات العلا معجزة من المعجزات للدلالة على أن معجزة الإسراء والمعراج لا تمثّل معجزة واحدة، بل تضمنت عدة معجزات، وإن إمامة الرسول محمد بالأنبياء عليهم السلام دليل على أنه خاتمهم وقائدهم، وإن رسالته شاملة لجميع الرسالات، وأنه (عليه الصلاة والسلام) شفيع الأنبياء جميعهم يوم القيامة، كما أنه شفيع للأمة الإسلامية.
والأمر الثاني هو : مشروعية الصلاة: لقد فُرضت الصلاة على المسلمين في سماء القدس حين المعراج، والمعلوم أن الصلاة هي ركن من أركان الإسلام، بل هي عمود الدين وعماده , ونظراً لأهمية الصلاة فإن الله عز وجل خاطب نبيه ومصطفاه مباشرة وبلّغه فرضيتها، في حين أن سائر الأركان والتكاليف الشرعية الأخرى شُرعت بواسطة جبريل (عليه السلام).
وفي الختام ندعو الله سبحانه وتعالى ان يعيد القدس لنا , وينصر المسلمين على اليهود الغاصبين ويعم السلام على الارض .