الدكتور أسعد عبد الرحمن
هل سيندم المستعمرون/ المستوطنون على دخولهم في أحشائنا؟
الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي ما زال يتخذ اليوم، كما اتخذ دوما بـ “فضل” الأيديولوجيا والممارسات الصهيونية، منحى صراع الوجود بحيث تداخلت السياسة مع الديمغرافيا بشكل جعل هذا الصراع مفتوحاً على مصراعيه على المدى البعيد. وفي إسرائيل اليوم، تتفق الأيديولوجيتان السائدتان الصهيونية الدينية (تعتمد النبوءة الدينية التوراتية) والصهيونية القومية المتطرفة على ضرورة عدم الانسحاب من الضفة الغربية بالإضافة لاستعمار/ “استيطان” كل الأرض. وهاتان الأيديولوجيتان/ المدرستان تمثلان الأغلبية الإسرائيلية اليهودية في هذه المرحلة.
تدرك الأحزاب السياسية الإسرائيلية، على اختلاف توجهاتها، أن الاستعمار/ “الاستيطان” يعبد الطريق إلى السلطة. فبدء من (نفتالي بينيت) وزير التربية وزعيم حزب “البيت اليهودي” أو (آفي غباي) رئيس حزب “العمل” المعارض، أو وزير “الدفاع” (افيغدور ليبرمان) زعيم حزب “إسرائيل بيتنا”، وبالتأكيد رئيس الحكومة الأكثر تطرفا في تاريخ الكيان الصهيوني (بنيامين نتنياهو) الذي يقود حزب “الليكود”، جميعهم يتبنون حركة “الاستيطان” لإقامة ما يسمونه “إسرائيل التاريخية”، وأيضا، ليعززوا مواقعهم في السلطة. ولم يعد هؤلاء وغيرهم يحاولون تجميل صورتهم أمام العالم. فهم يعملون علنا لدعم الاستعمار/ “الاستيطان”، بل يسعى كل منهم وأعضاء حزبه إلى طرح خطط استعمارية/ “استيطانية” أساسها: “أرض (يهودية) أكثر” و”عرب أقل”. بل إن الظروف اليوم باتت، بعد اعتراف (دونالد ترمب) بالقدس عاصمة لإسرائيل، مهيأة للموافقة على خطط “الاستيطان” فيها، إضافة إلى ما أعلن عنه قبل أيام من فرض سيادة جيش الاحتلال على أحياء سكنية فلسطينية في القدس المحتلة وضمها إلى مسؤوليته الأمنية، حيث يدور الحديث عن الأحياء المقدسية التي عزلها جدار الفصل العنصري عن المدينة المحتلة، بما في ذلك مخيم شعفاط للاجئين وقرية كفر عقب.
منذ نشوء القضية الفلسطينية، قاوم الشعب الفلسطيني “الاستيطان” الاستعماري باعتباره فرعاً عضويا في الأصل الشامل من (الاحتلال) سواء عبر المقاومة الشعبية وهذا يشمل مقاطعة “الاستيطان” عملاً وتعاملاً وتجارة، أو من خلال مقاومة مسلحة عبر عمليات جرت في داخل “المستوطنات” الملاصقة للفلسطينيين ولن يكون آخرها عملية “مستوطنة هار أدار” القريبة من القدس حين قتل عامل فلسطيني 3 جنود إسرائيليين وأصاب رابعا. فالشعب الفلسطيني أدرك أن الممارسات الاستعمارية/ الاستيطانية” والتي تتم بقوة السلاح لسلب الأرض لا أفق حقيقي للانسحاب منها على الأقل بشكل كامل! “فالمستعمرات” تتحول إلى مدن “أصيلة” مرتبط معها المصانع والمعابد وكل ما يحتاجه “المستوطن” من أجل “ترسيخه” في هذه الأرض!!
(1)إن تداخل الحياة بين الفلسطينيين والإسرائيليين قد يصبح، إن تم استثماره كفاحيا، من العوامل التي تصب في صالح الفلسطينيين. فأكثر من 200 ألف فلسطيني يعملون في داخل “المستوطنات”، وهؤلاء عندهم أذونات ولا توجد عليهم ملاحظات أمنية! فمن يعمل في مزرعة ليهودي في “مستوطنة” أو يقود “تراكتورا” أو سيارة، حتى لو فُتش على الحواجز ولم يكن معه سلاح، فسوف يجد بكل سهولة الشيء الذي يضرب به.
(2)كذلك، فإن مسألة التوجه لمحكمة الجنايات الدولية لتجريم قادة الاحتلال على الجرائم المتعلقة بسرقة الأرض الفلسطينية هي إحدى الطرق المهمة لمقاومة “الاستيطان”، مع التأكيد على ضرورة اللجوء إلى كافة الأسلحة السياسية والاقتصادية والقانونية والدبلوماسية والإعلامية والثقافية، مع التذكير بأن التقرير الأولي للمدعي العام للمحكمة الصادر بداية كانون أول الماضي، حسم موضوع انطباق القانون الدولي على “الاستيطان” الإسرائيلي في الضفة الغربية والقدس الشرقية المحتلة عام 1967، ما يجعل هذا الاستعمار/ “الاستيطان” جريمة يحاسب عليها مقترفها، ما يضغط على إسرائيل لوقف الانتهاكات وجرائم الحرب التي تقترفها، كإنشاء المستعمرات/ “المستوطنات”، والجرائم ضد الإنسانية، كفرض نظام تمييز وفصل عنصريين، نظام أبارتايد، وفق تعريف القانون الدولي.
(3)أيضا، هذه المستعمرات “الاستيطانية”، إن جرى استثمارها كفاحيا، تزيد من فرص اندلاع انتفاضة شعبية تلحق الخسائر وتزيد من كلفة دولة الاحتلال وتجبر المستعمرين على الرحيل عن الأرض الفلسطينية. فالاستمرار بسياسة “الاستيطان” تذكي نار الانتفاضة الفلسطينية المنشودة. وبالفعل، حققت الانتفاضتان الأولى والثانية (1987 و2000) انتصارات ميدانية وطرحت عمليا “حلاً فلسطينيا” صريحا لقضية مستقبل “المستوطنات”. فلقد استطاعت، بحسب الصحافة الإسرائيلية، إجبار 200000 “مستوطن” على الهروب من القدس إلى أماكن أخرى في فلسطين 1948 في الفترة الممتدة حتى عام 2005، حيث هجر “المستوطنون” جميعاً مستعمرة “سانور”، بينما هاجر غالبية مستعمري “بيت جيلو” وغيرها، مما أدى إلى تراجع النمو السكاني “بمستوطنات” الضفة إلى 2.8% بعد أن كان 7% في النصف الثاني من العام 2000، كما أجبرت “المستوطنين” على الهجرة المعاكسة إلى فلسطين 1948، وحالت دون مزيد من هجرة اليهود منها إلى “المستوطنات” في الضفة بما فيها القدس.
(4)ويأتي، في سياق استثمار الوضع كفاحيا، موضوع “الذئاب المنفردة” الذي يتحدث عنه الإعلام الإسرائيلي بعد كل عملية. ففيما كانت معظم الكتابات تتحدث سابقا عن ظاهرة “الذئب المتوحد”، أصبحت لاحقا تتحدث عن ظاهرة “الذئاب المنفردة”. فالمسألة لم تعد مسألة فرد أو فردين، بل هي أصبحت ظاهرة تشمل قطاعاً متناميا من جيل كامل، بحيث شكلت ظاهرة “ذئاب متوحدة”، لا ظاهرة ذئب متوحد فقط، مع استمرار عدم معرفة أجهزة الأمن الإسرائيلي لهذه العناصر وقيادتها.
اليوم، الأبواب للحل الدائم في قضية “الاستيطان” موصدة رغم إيماننا بأنها خاضعة للتغيير في اتجاهات مغايرة في قادم الأيام، وتجربة الانتفاضات الفلسطينية تثبت ذلك. فالمقاومة وحدها، بتفرعاتها، هي التي ستجبر العدو الصهيوني على التراجع عن مخططاته المتمادية. فوتيرة البناء “الاستيطاني” الحالية لا مثيل لها منذ عام 2000، خاصة بعد البدء بترويج خطة تشمل بناء 300 ألف بؤرة استيطانية جديدة، فيما يطلق عليها “القدس الكبرى”. وبحسب (ليبرمان): “هناك مساحة كافية للاستيطان في الضفة الغربية لمليون أو اثنين آخرين، للأماكن التي تناسبنا من حيث السياسة. ويتم ذلك في سياسة متوازنة”!!!
المستعمرون/ “المستوطنون” هؤلاء، لا بد أنهم سيندموا – شرط توفر وتفعيل خطة كفاحية فلسطينية – على توغلهم “الاستيطاني” بين الفلسطينيين. “فالمستوطنات” دخلت اليوم الأحياء الفلسطينية وتتشابك معها، وبالتالي بات “المستوطنون” يعيشون بين الفلسطينيين، ولا حاجة للفلسطيني أن يسعى إليهم. ومعروف أن أي حكومة إسرائيلية لا تستطيع بناء سور في القدس القديمة، ولا حتى في الأحياء الشرقية في القدس الشرقية، لأن البيت أو العمارة بجانب بيت وعمارة أخرى وبجانب المستعمرة الجديدة. فهل تبادر الفصائل الفلسطينية إلى استثمار هذا الحال المتوغل في أحشائنا وجعله توغلا في أحشائهم؟