د.منصور محمد الهزايمة
نعيش هذه الأيام ذكرى مرور نصف قرن بالتمام على وقوع معركة الكرامة، التي نُسبت إلى بلدة الكرامة في غور الأردن، لكن يجوز أيضا أن تنسب إلى معاني الكرامة نظراً لاستعادتها وقتذاك شيئا من كرامة الأمة، وهيبتها المفقودة، التي أُطيح بها قبل أشهر فقط من ذلك التاريخ في زلزال عنيف، حققت فيه إسرائيل نصرا سهلا سريعا مذهلا، إذ احتلت في ستة أيام أراضٍ لثلاثِ دول عربية، مما زاد مساحتها منذ قرار التقسيم عام 48 بأكثر من ثلاث مرات.
كان حال الأردن والأمة آنذاك يدعو للأسى والأسف، فقبل أشهر قليلة اُضطر للمشاركة في حربٍ يعرف سلفا أنها ستكون فاجعة، أستعد لها العرب بالجعجة والخطابات الرنانة، ويقال أن الشهيد وصفي التل حاول وقتها أن يقنع الملك الراحل بعدم الدخول في حرب ستكون كارثية النتائج، ويتكفل بتحمل المسئولية، لكن الهرج والمرج السائد آنذاك لا يسمح للعقل العربي أن ينفك من عقاله، حيث تهمة الخيانة جاهزة لكل صوتٍ يدعو إلى التروي والتعقل، وكانت الخلافات بين دول الطوق تشب عن الطوق، ثم ظهرت منظمة التحرير الفلسطينية تواً، لتبدأ لعبة التنافس المرير بين الطرفين على ضفة مسلوبة، وبدا الخلاف بينهما كما الخلاف على صيد البحر، وقبل أن تُحدد طرق وأدوات الصيد، تبدأ المماحكات بين الجانبين مبكرا لتختلط الساحة الأردنية على الجميع.
خرج الأردن من زلزال الأيام الستة مثل بقية العرب مهشما محطم الخطى والكيان، وتعرّض كبرياء جيشه للإهانة، حيث جر-بضم الجيم- إلى الدخول في معركة غير متكافئة، قادها النزق والعنجهية، فقد كان يقبع تحت قيادة مصرية لا تعرفه ولا يعرفها، ومُنّي بغطاءٍ جوي مصري لم يتحقق، حيث خرجت الجبهة المصرية من المعركة سريعا، فسقطت منه الضفة والقدس التي حافظ عليها في حرب 48، وتدفق آلاف النازحين على البلد، منضمين إلى غيرهم من اللاجئين، لتحل المعاناة في كل جوانب الحياة، ويبقى الجرح النازف عصيا على المداواة، لم يلتئم حتى الحين.
في ظل ما سبق، كانت إسرائيل تزهو بنشوة الانتصار، والجندي فيها يرفل بثوب الفخار، فقد ذاق طعم النصر مرارا، حيث فاز بمعظم فلسطين في حرب48، واحتل باقيها في زلزال 67، بل أكثر من ذلك احتل سيناء بما تمثله من حاجز طبيعي مع المصريين، واحتل الجولان كمرتفع استراتيجي فاصل عن السوريين، لكنّ خسارة الأردن لضفته آنذاك لا تضاهى بخسارة بل كانت أشد مرارة.
في ظل غرور باين من العدو، وعجز مستحكم في الأمة، ظن العدو أنه قادر على الضرب كيف أراد وقت يريد، مقابل الشعور بالذل والمهانة لدى العرب، وخاصة الجندي منهم، وساد الاعتقاد بأن جيش العدو لا يُقهر، وصار العربي ينظر الى ذلك الجيش بإعجابٍ حاقد وغلٍ حاسد، في ظل هذا الظرف القاهر يتعرض الأردن لهجمة استعلائية شرسة، تجعله يعضّ على الجرح، لينتزع نفسه من براثن الوحش، ولا يزيد جراح الأمة.
قام العدو المتغطرس فجر ذلك اليوم الربيعي من آذار عام 1968 بدفع ما يزيد عن 15000 جندي، ترافقهم مختلف صنوف الأسلحة الحديثة آنذاك، كانوا يحظون بغطاءٍ جوي يتفوق على كل العرب بالعبور على عدة محاور، مزهوا بما تحقق له قبل أشهر، فيتبجح أمام الصحافة العالمية أنه قادم لنزهة، ولتحقيق أهدافٍ أعدّ لها جيدا، كان على رأسها احتلال مرتفعات على شريط الحدود الممتد ، وإقامة منطقة عازلة ، ليتصدى له الجيش الأردني ببسالة واقتدار، فيوقف هجومه على الفور، ويوقع فيه إصابات بشرية ومادية قاتلة، ويمنعه من إعادة بناء الجسور على النهر ليمنع عنه الإمدادات من الخلف، ويمنعه من جرِ قتلاه وجرحاه إلى الوراء، ويعطب له الكثير من الدبابات والآليات، ويضطر للاستنجاد بحليفته الراسخة الولايات المتحدة، لطلب وقف إطلاق النار لأول مرة في مجابهة مع العرب، لكن الملك الراحل يرفض الطلب حتى ينسحب أخر جندي عن الأرض الأردنية، وهكذا كان، فتعرّض الجيش الإسرائيلي لهزيمة مهينة، تحطمت معها هالة الجيش الذي لا يقهر على قلعة الشموخ الأردنية.
كانت معركة الكرامة بمثابة قبسٍ أعاد الروح للأمة، واعتبرت مؤشرا على حيويتها في استعادة هيبتها وكبريائها القومي، وحلق طائر الأمل في النفس العربية بإمكانية استرجاع الحق العربي، لكن سرعان ما تم تجيير النصر الأردني لصالح منظمات فلسطينية، كانت مشاركتها أصلا موضع جدل بين مشاركة رمزية أو معدومة، فيذكر الأمير حسن أنه رآهم بأم عينه مع شروق شمس ذلك اليوم وقد تركوا أرض المعركة إلى صويلح وعمّان، وأمّا أحمد جبريل منافس عرفات آنذاك وعدو الأردن اللدود حتى اللحظة، فيتهم عرفات بإنه ضحى بحوالي 90 رجلاً دون مبرر، ولغايات دعائية، ليثبّت رجِله بالسلطة، وتخدع هذه المنظمات المتناحرة العرب بأنها حققت النصر العظيم، فتنصب عليها التبرعات، ويتهافت عليها المتطوعون، ولأنها تفتقر إلى التنظيم ماديا ومعنويا، فقد ركبها الغرور، لتقوم بعدها بتخريب البعد الشعبي في الأردن، وتجميع متناقضات الأنظمة العربية على الأرض الأردنية، ثم تتجه للقيام بأعمال خرقاء بخطف الطائرات وتحويلها إلى المطارات العربية، لتوسم الأمة من حينها بالإرهاب، ويزيد الاحتقان مع الشعب والجيش والدولة الأردنية، لينتهي الأمر إلى فوضى عارمة، يضطر معها الجيش الأردني إلى الحسم ، وينفتق جرحٌ دامٍ في جسم الأمة، فتضيع نشوة النصر بل والعبرة منه على الأمة، ليخرج هؤلاء بتناقضاتهم إلى لبنان، فينزف جرح جديد، ليتشتت جهد الأمة، وتصبح شعارات إزالة آثار العدوان والتحرير من حينها بعيدة المنال حتى في الأحلام.
في ذكرى معركة الكرامة الخالدة في وجداننا ابدا، نوجه التحية لكل قوافل الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم لصون الوطن الغالي جوهرة الأوطان، حيث هزموا القوة الغاشمة، واستردوا حينها هيبة الأمة، وحطموا الأسطورة المتغطرسة، بفعل التضحية الصادقة الملهبة للمشاعر، والقوة المؤمنة بالله والوطن، حيث يحتفل الأردنيون بنصرهم المستحق في يوم الكرامة، فالحقيقة قد تُغيّب إلى حين لكنها لا تغيب إلى الأبد، وهي مناسبة لمناشدة الأردنيين بأن ُنبقي الاختلاف بيننا في إطار ملعبنا الوطني، حيث يُباح الاختلاف مع الأنظمة والحكومات لكنه محرّمٌ ومجرّمٌ مع الأوطان.
دمتم ودام الأردن
كل عام وأمهاتنا بألف خير
الدوحة – قطر