د. مأمون نديم عكروش
إصلاح الجامعات الوطنية
لا شك ان هناك جهود وطنية صادقة لتطوير التعليم العالي في وطننا العزيز من أجل تحقيق أهداف التنمية المنشودة وقطف ثمار التعليم الجامعي المميّز وتحديداً في المجالات الإقتصادية والإجتماعية. فقد تم إنجاز حُزمةً من القوانين والأنظمة والتي جاءت إستجابةً للتوجهات الملكية السامية والإستراتيجية الوطنية لتنمية الموارد البشرية التي حدّدت خريطة الطريق لعمل الجامعات وتحديد آليات الحاكمية المؤسسية الرصينة من خلال الإعتماد على المجالس المعنية بصورة تواكب روح العصر. فالتوجة الإستراتيجي الحالي للدولة الأردنية هو الإعتماد على الذات ضمن الإمكانيات الموجودة من خلال الإدارة الحصيفة والإستراتيجيات الفعّالة لمٌختلف مؤسسات الدولة ضمن رؤى إستراتيجية واضحة المعالم. فأبلغ رسالة تجلّت في خطاب العرش السامي لجلالة الملك عبدالله الثاني بتاريخ 12/11/2017 عند إفتتاحه الدورة العادية الثانية لمجلس الأمة الثامن عشر حيث أكد جلالته ‘انه لا بد ان نعتمد على إرادتنا وإمكانياتنا وطاقاتنا في مواجهة التحديات أمامنا بعزيمة وتصميم’. فالرسالة الملكية السامية واضحة ومباشرة بضرورة الإعتماد على الذات والخروج من عباءة وضع التصورات والاستراتيجيات والعمل بشكل مباشر على تنفيذ الإستراتيجية الوطنية لتنمية الموارد البشرية كلُ في حقل إختصاصة. فجامعاتنا هي جزء هام جداً من الوطن الإردني وتمثل ركن أساسي من أركان المخزون المعرفي الإستراتيجي ومنارات علم ومعرفة تساهم في إنارة الطريق أمام الأجيال القادمة.
غالبيتنا يعلم تماماً المشكلات المزمنة التي تعاني منها العديد من جامعاتنا الوطنية، وخصوصاً الرسمية منها، وحاجتها الماسّة للموارد المالية المطلوبة لتأدية المهام المنوطة بها لتساهم برفد الوطن بثروة معرفية تقدمية تدفع بإتجاه التنمية المستدامة. ولكن، الى متى ستبقى جامعاتنا تعتمد على الدعم الحكومي المباشر؟ متى ستصبح جامعاتنا مراكز إستثمارية وليس تكلفة؟ هل مطلوب إجراء تغييرات جذرية في نماذج العمل والفلسفات الإستراتيجية الحالية لديها؟ إن بداية الحل الإستراتيجي للخروج بالعديد من جامعاتنا من عنق الزجاجة والانتقال الى مرحلة المبادرة الاستراتيجية يعتمد بالدرجة الإولى على نقد موضوعي للذات ووضع إستراتيجيات واقعية للإعتماد على الذات والتوقف عن إستمرار الحلم الجميل الذي نعيشه حالياً والذي يعتمد على الدعم المالي المباشر للجامعات. فالنقد الموضوعي للذات يُعتبر بداية الطريق لحل مشكلات جامعاتنا، لا بل من خلال الإعتراف بوجودها ومن ثم البدء بالإعتماد على الذات كخيار إستراتيجي للبقاء والنمو على المدى البعيد. فمن منظور إستراتيجي، فإنه لا بدّ من إجراء تغيير تدريجي في المؤسسة الجامعية من حيث الفلسفة والمفهوم لنؤسس لتوجه إستراتيجي مستقبلي واضح حتى لو تطلّب الأمر تنفيذ حزمة إجراءات جراحية مؤلمة من أجل ضمان مستقبل أفضل للجامعة ولجميع الأطراف فيها. هذا الأمر يتطلّب طروحات وقرارات إصلاحية جريئة من قبل قيادات أكاديمية ذات كفاءة عالية، قد تكون غير شعبية في وقتها، ولكنها تؤسس لمستقبل أفضل للجامعة من خلال الإعتماد على ذاتها. وهنا لا بدّ من إجراء عملية تحوّل جذرية في نماذج العمل المؤسسي (Business Paradigms) في الجامعات حتى تتحوّل جامعاتنا من طرائق التلقين الى التركيز على التفكير الخلاق وفقاً لمنظومه من المهارات والقدرات المطلوبة في كل حقل من حقول المعرفة الجامعية. كما لا بدّ أن تتحول جامعاتنا لمراكز جامعية بحثية حاضنة للإبداع التدريسي والبحثي من خلال التركيز على متطلبات أسواق العمل الوطنية والدولية لتعزيز القدرات التنافسية للخريج الأردني. حتى يتحقق ذلك، فلا بد من أخذ زمام المبادرة والعمل على تحويل جامعاتنا لحاضنات أعمال وفقاً لحقول المعرفة في كل جامعة والعمل على أن تكون مصادر تمويل الجامعات متنوعة من خلال إستقطاب إستثمارات وتبرعات ومشاريع مشتركة من مختلف قطاعات الأعمال على أسس تشاركية بدلاً من الإعتماد على رسوم الطلبة كمورد رئيسي للجامعة.
حتى يتحقق ذلك، أتحدّث في هذا المضمار وبشكل مباشر عن تغيّر دور رئاسة الجامعة (أي جامعة) بحيث تتحوّل من ممارسة العمل الإداري الروتيني وممارسة اللوبيات والكولسات والتغطية على ملفات معينة الى ممارسة القيادة الجامعية الحقيقية والعمل الميداني والانطلاق في فضاءات إستقطاب الاستثمارات التعليمية والاندماج مع مُختلف المؤسسات وقطاعات الأعمال ذات العلاقة بالجامعة من خلال التركيز على حُزمة من المهارات والقدرات البحثية لعضو هيئة التدريس والخريج ورفد هذه المؤسسات بما تحتاجة لتحسين أدائها من جميع النواحي، لا بل تقوم الجامعات بقيادة الإبداع والريادة في الإقتصاد الوطني. قد يظن البعض أن هذا الكلام نظري وغير قابل للتنفيذ على أرض الواقع وسيبقى ضمن دائرة التنظير الأكاديمي ولكن التجربة الميدانية تشير الى غير ذلك! الأمر يحتاج الى الجرأة والصراحة والوضوح بأن هناك قيادات الأكاديمية لم تكن كفؤة وقصرت في مواكبة التكنولوجيا الحديثة عبر عقود من الزمن خلت ومارست الفساد والإفساد: فمن يتعيّن بالواسطة يصبح رهينة للإملاءات وسيطرة إداريين ضعفاء وفاسدين لا بلّ يستطيع تبرير الفشل! الأمر ليس بدرجة التعقيد التي يراها البعض! نقطة البداية تكمن في تعيين رئيس للجامعة لقيادتها وليس لإدارتها، وهذا يتطلب الطلب منه تطوير خطة إستراتيجية للجامعة للسنوات الأربع القادمة قوامها الإعتماد على الذات وتطوير العمليات الأكاديمية والفنية والتقنية ومواكبة التكنولوجيا بحيث يتم محاسبته عليها مستقبلاً! أيّ خطة إستراتيجية للجامعة يجب أن تركّز على تلمّس إحتياجات سوق العمل والتأسيس لإستخدام الموارد المتوفرة وإرساء قواعد التعليم التطبيقي والتقني وفقاً لنماذج وخطط عالمية نجحت في هذا المضمار وحققت نتائج تستحق التوقف عندها. كما يجب على الجامعة أن تتبنّى نهجاً واضحاً بالتوجه نحو سوق العمل (Labour Market-Oriented Approach) في برامجها التعليمية والأكاديمية والتقنية حتى تواكب روح العصر بإستمرار. لذلك، على ‘العقل’ الإستراتيجي في الجامعة أن يكون مُدرك تماماً لإحتياجات الجامعة الإستراتيجية الحالية والمستقبلية ممزوجة بروح العصر الحالي والتطور المطلوب وأجزم بأن النتائج على الأرض ستكون ملموسة وواضحة ويمكن قياسها بطرق كمية وضمن مقاييس معتمدة لا تقبل التأويل وهي لغة الأرقام وتحّسُن البيئة الجامعية بشكل عام.
لذلك، الأمر بسيط جداً لإصلاح أي مؤسسة أكاديمية ووضعها على المسار الصحيح: وجود خطة إستراتيجية، رؤية واضحة، قيادة وفراسة في أتخاذ القرارات بطريقة مؤسسية وتحقيق نتائج ملموسة على أرض الواقع. إن القوة الدافعة للإنجاز هي الإيمان المُطلق بالوطن ومصلحة الأجيال القادمة وتحكيم الضمير بعيداً عن المصلحة الشخصية الضيقة التي لا تخدم إلا صاحبها. لذلك، نحن بحاجة لتنفيذ نهج جديد في الحاكمية المؤسسية الرصينة يعتمد على وضع الروية المؤسسية وفتح المجال للتنفيذ على أرض الواقع وتقدير الإنجاز بقدر حجمه ومحاسبة التقصير بقدر حجمه أيضاً لأنه لم يعد هناك متسع من الوقت ولا وفرة الموارد للتجربة والخطـأ مرّة ً أخرى. وفي النهاية التوفيق من الله عزّ وجلّ.