رمزي الغزوي
(أين قماشتنا؟)
في زمن أظنه ليس ببعيد، نزل بدوي إلى المدينة وتبضع مؤونة أهله، ولوازم البيت، ثم جال في رحابة الأسواق حتى اشترى خمسة أذرع قماش؛ ليخيط منها دشداشاً يتهندمه في عرسه القريب.
عند الموعد المحدود رجع صاحبنا متلهفاً لاستلام دشداشه. لكن المفاجأة وقعت على رأسه كيوم القيامة، إذ أنبأه الخياط بأن القماش الذي أحضره (يكش) بالغسيل، أي يشرب بالماء، ويتقلص طوله وعرضه عند الغسل، فيصبح أقصر وأصغر وأضيق، وأضاف بأنه ما أن بلل قطعة القماش بقليل من الماء؛ حتى اختفت كلها، ولم يبق منها خيط ينظم بإبره.
ولول الرجل حزينا ثم هرع إلى بائع القماش متابطاً شراً متقادحا شرراً، فأخبره بأن قماشه ليس جيداً، فهو يكش بالغسيل، حتى أن القطعة التي اشتراها، لم تلبث أن اختفت بيد الخياط مع أول بلة ماء.
بعد أن هدأ من روعه، قال البائع للرجل إن قماشه ممتاز جداً، وأنه محلوج من القطن عريض التيلة، وأن كل لفة القماش التي عنده، لو غسلها بالماء عشرات المرات أو نقعها شهراً فلن تنقص إلا بمقدار خمسة أذرع.
رجع صاحبنا إلى الخياط (فارعاً دارعاً)، وأخبره بقول البائع، فرد عليه الماكر بخبث: كلام البائع صحيح مئة بالمئة، ولكنه قد غشك وخدعك بالفعل دون أن تدري، فهو قد أعطاك الخمسة أذرع التي تكش بالغسيل تحديدا.
ليس مفيداً أن نزجي نصيحة لهذا المسكين بضرورة العودة السريعة إلى باديته الصادقة، واستعارة اية دشداش من خال أو عم أو جار، ليتزوج به والسلام، فقد فات فوت النصح، (وللي طبّع طبّع، والربّع ربّع).
وليس مفيداً أيضاً، بعد كل الوهم الذي شربناه، أو لبسناه، أو أكلناه، أن نزجي نصيحة لأنفسنا بضرورة مراقبة أولئك الذين أعطيناهم قماشنا وغزلنا وقطننا، وائتمناه على عرينا، كي لا يمنحونا الهواء ثوباً فضفاضاً. وضرورة محاسبتهم أولاً بأول، كي لا يطعمونا أكبر وهم بالعالم بتنا نراه.
ربما كان علينا أن لا ندعهم يحلجون ويغزلون لنا قطن السماء وغيمها وغبارها، كي نلبس شفيف الماء أو الهواء بعد عناء وعناء، ربما كان علينا، أن لا نكون سذجاً، إذ صدقنا باعتنا وخياطينا، أن قماشتنا ولحمنا كشت وانكمشت في الماء، أو أننا نختفي إذا ما شربنا قطرة عرق من أجسادنا المتعبة.
ربما كان علينا أن نقول منذ زمن: لا نريدكم، ولا نريد وهم قماشكم ووهمكم. حتى لا نصل إلى يوم صرنا فيه (زلطاً ملطاً). ربما كان علينا أن نبركن غضبا لا يطفيه مكار الخياطين وتجار الوهم.