أ. سعيد ذياب سليم
ما أجملك أيها الصيف!
كان قد أنهكه السهر، لم يكن من السهل عليه أن ينام ليلة أمس ، حاول مخادعة النوم بكل الطرق التي خطرت له، بعد أن شاهد التلفاز حتى تعبت عيناه، لجأ إلى سريره، كانت الليلة حارّة لزجة و صوت زعانف المروحة الكهربائية يزعجه وهواءها يلفح جسده ويُشعره بشيء من البرودة، بدأ يلهي وعيه بالعد، ربما بلغ الألف ثم بدأ من جديد وفي كل مرة تسحبه تيارات الذكرى و يسقط في واد مختلف، إلى أن فقد وعيه .
استيقظ على أصوات المدينة تدخل حجرة نومه، عمال حفر و بناء و أصوات الباعة ، سيارة الاسعاف تزعق قادمة للمستشفى المجاور نهض متثاقلا، في فمه طعم مرار، اتجه إلى الحمام ليزيل أرق الأمس وعلاماته.
بدأ يشعر بالحياة حوله و يستوعب دورتها، في المطبخ ملأ غلاية القهوة ماء و أشعل الغاز وانتظر غليانها ثم أضاف القهوة و أخذ يراقب فورانها بحذر، عاد إلى مقعده المقابل للتلفاز حاملا فنجانه يطالع شريط الأخبار ، موجة نزوح جديدة، خلاف بين دول الاتحاد الأوروبي حول اللاجئين، لقاءات قمة بين قادة السياسة العالمية، مذيعات بلباس صيفي خفيف، ومذيعين بلباس رسمي يتحدثون عن الاقتصاد و الرياضة، ويقدمون وجهات نظر، تقارير و تحاليل للأحداث، فواصل دعائية تميز الصيف، درجات الحرارة العالية لليوم تنبؤ بشدته ، ماذا سيصنع اليوم؟
أمامه على الطاولة الصغيرة رواية ” جوزية سارماجو” ” المنوَر” ، تلك التي عادت إلى الحياة بعد أربعين سنة، أرسلها الكاتب في بداية مشواره إلى إحدى دور النشر في خمسينات القرن الماض، لتضيع بين الأوراق و تعيش في دهليز النسيان كل هذه السنوات، تتناول شخصيات عادية من قاع الطبقة الوسطى نراها حولنا ، في الشقة المجاورة و نلتقي بها في الشارع وعلى درج العمارة، تصفـّحها و أكمل من حيث انتهى مع ” أبيل” الذي يحدث نفسه عن جدوى الحياة، و العادات اليومية التي تغطي أعيننا كجرعة المورفين، تربطنا إلى نير الرتابة نستمر بالحياة وننتظر شيئا لا أحد يعلم ما هو لكنه يجعل للحياة معنى .. تركها و عاد يدور في زوايا البيت يحدث نفسه ..
هل سيختلف هذا الصيف عمّا كان في العادة؟ حرارته حول المعدل ، مزاد ..صفقات .. وحَمَامَات بيضٍ تسقط عطشى، ربما نهرب نحو البحر، يتحدثون في الأوساط الاجتماعية عن الرحلة الصيفية، وكأنها طقوس موسمية تقام لتكشف عمّا في حياتنا من دهشة و كم هي الروح فتية ؟ أم ترى شاخت منذ زمن، لكنها تحدٍ يصعب علينا مواجهته في مرحلة يشتد فيها الحصار على أحلامنا ويجعلنا في دوامة الانتظار غرقى منذ أجيال، فشرقنا يعيش اللعنة منذ أبونا آدم رغم كثرة أنبيائه المعاصرين وما يحملون من نبوءات ، ما زال الرغيف و حبة الدواء بعض الأمنيات.
ربما نهرب من أسر البيت إلى الأسطح التي يرخي عليها الليل عباءته الندية أو أرصفة الشوارع ، ربما زيارة لمقهى صغير أو مطعم للوجبات السريعة، أو الاكتفاء بجلسة على عتبة البيت برفقة الأصدقاء و “أرجيلة” تسمع كركرتها بيننا و نحن منصتين لحكمتها وكأنها شيخ جليل يروي لنا حكاياته.
لم يستيقظ بعد أحد غيره، قرر الخروج لإحضار لوازم البيت قبل أن تشتد حرارة الشمس، سار في الظل من جزيرة إلى أخرى و من محل إلى آخر بين الفرن و البقالة و “الخضرجي” ، حاملا أكياسه البلاستيكية ، عاد من رحلته ليجد زوجته في الانتظار، تشاهد برنامج للطبخ على قناتها المفضلة، مذيع يشارك في البرنامج ويأكل بنهم تُبيّن حركاته الطريفة وملامح وجهه لذة الطعام ، نهضت تتفقد ما أحضره وتبدأ برنامجها اليومي، بين كنس و غسيل و طبخ ، يجلس بكسل أمام التلفاز يقلب باحثا بين المحطات عن برنامج يمكنه متابعته يقضي فيه وقت الظهيرة حتى موعد الغداء.
حوله أصوات صاخبة متداخلة، صوت المكنسة الكهربائية في يد ابنته، “راديو” المطبخ ، صوت بائع الخضار في السيارة المارة أمام البيت ، حركات أبنائه جيئة و ذهابا، تحالفت لتمنعه من متابعة برنامجه وهو يحاول جاهدا المحافظة على هدوء أعصابه، لكنه لم ينجُ و سبّب له أرق ليلة الأمس صداعا ، لاذ بغرفته، محاولا أن يوصد دونه باب النهار ، على حافة النافذة أصيص نبتة صبّار، سكب فيه بعض الماء و تمعّن بأكفها و براعمها الشوكية، من قال أنها تجلب الكآبة والشقاء وهي النبتة التي تتحمل قسوة الأجواء و شُحّ الماء وتقف جميلة متحدية ظلم الناس لها ، ثم يقطعون أكفها يستخرجون منها موادا مختلفة يصنعون مركبات تجميلية و علاجية وينتقدونها!
تمدد على سريره و دخل كهف اللامبالاة في جلسة تأمل، في الخارج لم يتوقف النهار عن السعي بين مشاريعه مع الناس لكن صاحبنا يحس إيقاعه كسلحفاة عجوز، أرسل أفكاره تتجول في أنحاء المنزل، في الغرفة المجاورة أبناؤه نيام بين كتبهم و حوائجهم في فوضى الإجازة الصيفية، بعضهم يرنو إلى هاتفه و يبتسم وحيدا، في المطبخ تستمر الأحداث ليسمع نداء زوجته تطلب منه إحضار اسطوانة غاز، يمضي بتثاقل متلعثما ينادي أحد الابناء ليحمل معه الاسطوانة.
تتالت أحداث النهار بشكل عفوي، جلس مع الأسرة حول سفرة الطعام لتناول الغداء ، وليخرج من أجواء الملل و الرتابة تساءل : لماذا لا نضع خطة للمساء ؟ وهكذا كان ، اختاروا الجلوس لتناول المثلجات في كافتيريا صغيرة ثم السير على الرصيف لبعض الوقت ، الحركة والضجيج و رنين ضحكات المارة توقظ في النفس اللهفة و ملامح الوجوه تقرأ فيها نبض الحياة ، ليل الصيف شيء آخر غير نهاره، شلال من الألوان و المرح يلطّف من لهيب الروح و يخرجك من عشوائية الطقوس اليومية ، يفاجئنا الصيف كموجة “تسونامي” فيغرقنا بالدهشة و يصب علينا نيرانه كبركان ثم نضيع في الفراغ بلا خطة أو هدف لكن ليله يعيد إلينا الفرح ،ما أجملك أيها الصيف!
أ.سعيد ذياب سليم