أ.د. خلف الطاهات
من الثوابت الراسخة في تشكيل الهوية الوطنية، يبرز الإعلام والدراما كأداتين محوريتين في بناء الوعي الجمعي وتعزيز الانتماء الوطني. لكن المؤسف أن كلا القطاعين، في الأردن اليوم، يعيشان حالة من التراجع والإهمال، وسط غياب واضح للاهتمام والدعم من قبل الجهات الرسمية.
حالة من الحزن والأسى تعتري المتابع حين يرى تغريدات لفنانين أردنيين يتحدثون بمرارة عن الواقع المؤلم الذي وصلت إليه الساحة الفنية. واقع لا يُنصف الفنان الأردني ولا يليق برسالة الفن ولا بأهمية الدراما في الحفاظ على الهوية الوطنية التي تتعرض لتهشيم ممنهج، في وقت تُسخّر فيه أدوات الإعلام والدراما لدى دول أخرى لصناعة سردياتها الوطنية وترويج مواقفها داخلياً وخارجياً.
في أحد المنشورات المؤلمة، كتب فنان محلي رسالة مفتوحه للإعلام عن معاناته الشخصية التي قد تودي به إلى السجن، لا لتقصير منه، بل نتيجة للإهمال المستمر في دعم الإنتاج الدرامي. فنانون آخرون أبدوا استياءهم العميق من تجاهل مؤسسات الدولة للدراما الأردنية، التي كان من المفترض أن تكون في طليعة أدوات التعبير الوطني والتأثير الثقافي، لا سيما في ظل تسارع الأحداث الإقليمية والدولية وضرورة وجود سردية أردنية قوية وواعية.
نتذكر جميعًا، وبفخر، دور التلفزيون الأردني ومؤسسات الإنتاج الوطنية التي لطالما دعمت الدراما المحلية وقدّمت محتوى نوعيًا ترك أثرًا كبيرًا ليس فقط داخل الأردن، بل امتد إلى الخليج العربي عبر المسلسلات البدوية وغيرها من البرامج التعليمية والثقافية التي رسخت صورة الأردن وهويته لدى المشاهد العربي.
لقد كانت تلك الدراما جزءًا من مشروع وطني كبير، يعبّر عن صوت المجتمع وقضاياه، ويُظهر تاريخه وقيمه، ويساهم في تعزيز وحدته وتماسكه. أما اليوم، فنكاد نفتقد لهذا الصوت تمامًا، بعد أن تراجعت نسب الإنتاج، وانسحب الدعم، وغابت الرؤية الإعلامية والثقافية التي تربط الفن برسالته الكبرى.
ولا يمكن الحديث عن أزمة الدراما الأردنية دون التذكير بالدور الريادي الذي لعبه الفنانون الأردنيون في إثراء الدراما العربية، سواء من خلال الأعمال المشتركة أو من خلال مشاركاتهم في أهم المسلسلات العربية، لا سيما في الدراما الخليجية والسورية والمصرية. أسماء لامعة مثل المرحوم ياسر المصري، منذر رياحنة، صبا مبارك، زهير النوباني، عبير عيسى، نبيل المشيني وغيرهم ممن لا يتسع المقال لذكرهم هنا، وشكّلوا علامة فارقة في تاريخ الدراما العربية، وأثبتوا أن الفنان الأردني يمتلك من الموهبة والحضور ما يؤهله ليكون في الصفوف الأولى. لقد كان هؤلاء الفنانون سفراء للأردن في كل بيت عربي، يحملون معهم صورة الوطن وثقافته وهمومه، ويجسّدون بفنهم رسالة الدراما الأردنية التي لطالما كانت حاضرة بقوة، قبل أن تتراجع بفعل الإهمال ونقص الدعم، لا بفعل ضعف الكفاءات أو غياب الطاقات الإبداعية.
إن الصمت على هذا التراجع ليس خيارًا، فالدول التي تعي أهمية “القوة الناعمة” تستثمر في درامتها وتساند فنانيها، لا تتركهم يصرخون في الفراغ. المطلوب اليوم أن تعود الدراما الأردنية إلى الواجهة، وأن يُعاد النظر في سياسات الدعم والإنتاج والتوزيع، حتى لا نخسر أحد أهم أركان الهوية الوطنية.