كريستين حنا نصر
للأسف منذ الاحتلال العثماني للمنطقة وعلى مدار اربعة عقود ماضية، وما تلاها من مرحلة الاستعمار الاوروبي في بداية القرن العشرين ، شهدت المنطقة حالة تنافس من أجل السيطرة والنفوذ، خاصة مع ابرام الاتفاقيات والمعاهدات حول تقسيم النفوذ بين الدول الاوروبية ( فرنسا وبريطانيا ) عبر معاهدة سايكس بيكو عام 1916م ووعد بلفور عام 1917م ومعاهدة سان ريمو عام 1920م، وهي حالة هيمنة وتبادل للنفوذ على المنطقة امتدت عبر العقود الماضية.
وبالرغم من استقلال هذه البلدان العربية بعد الحرب العالمية الثانية والعقود التي تليها، الا أننا شهدنا مظاهر نفوذ وهيمنة ( ايرانية وتركية) في المنطقة، تزامنت مع تغلغل نفوذ أمريكي وروسي في فترة مبكرة أيضاً تعود جذورها إلى زمن الحرب الباردة والتي استمرت حتى العقد التاسع من القرن العشرين، ويمكن القول أن ظاهرة تعاقب القوى وتنافسها لبسط نفوذها في المنطقة جعلها منطقة متوترة غير مستقرة في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وما تزال منطقتنا تعيش هذه الحالة المتأزمة المضطربة الى جانب حروب وصراعات أثنية ودينية وعرقية دموية.
إن ما يمكن وصفها بحقبة سايكس بيكو تحديداً، فانه يلاحظ على اثرها وقوع سلسلة من الاحداث سمتها اضفاء حالة من عدم الاستقرار في المنطقة، ومن ملامحها المرحلة التي أطلق عليها (الربيع العربي)، والتي تعمقت معها في منطقتنا الصراعات والأزمات والتدخلات الخارجية ومشاهد العسكرة والتطهير العرقي والتغيير الديمغرافي في بعض المناطق، وبشكل دقيق في سوريا، وبالتالي على اثر هذه الوقائع السياسية والمتغيرات الكثيرة، لا تزال منطقتنا لليوم تعاني ولم تتعافى من هيمنة القوى المتنافسة، اضافة إلى ارتباط الدول العربية مع قوى ولاعبين لهم تاريخ سياسي سيادي سابق مثل فرنسا وبريطانيا، مما يدفعني للقول بأن الواقع الجيوسياسي الحالي للشرق الأوسط لم ينفصل أو ينفك يوماً عن سايكس بيكو ورسمها للحدود الجغرافية، فما تزال نتائجها بهيمنة القوى الخارجية تتعمق بشكل فاعل ساهم في ذلك بشكل أو آخر مرحلة الربيع العربي وما تلاها أيضاً.
وبنفس الاتجاه فإن هذه الدول ومع الاسف، لم يشهد حاضرها استقراراً واستقلالية تامة حتى على الصعيد الداخلي، أي بين مكونات شعوبها المختلفة عرقياً ودينياً، والتي يغلب عليها إنتشار الصراعات وبروز واقع هيمنة سلطة الاقلية على حساب حقوق الأكثرية في البلد الواحد، الأمر الذي قاد إلى اندلاع حروب وصدامات أهلية توسعت دائرتها وجغرافيتها لتشمل معظم بلداننا العربية في منطقة الشرق الأوسط، ولا شك أن الحالة الراهنة جعلتنا أمام واقع هو حدود الدم وملامح مشروع الشرق الأوسط الجديد، وهو مشروع أنطلق من فكرة للضابط الامريكي المتقاعد رالف بيترزRalph Peters، في عام 2006م وينص هذا المشروع على إلغاء حدود سايكس بيكو الحالية في الدول العربية لصالح اعادة خلق حدود جديدة، يتم بموجبها تقسيم واقتطاع حدود الدول العربية لصالح دول أخرى، ليخلص الى نتيجة مهمة وهي أن الصراعات الجارية سببها فشل ترسيم الحدود القديمة( حدود سايكس بيكو) لذا فان الخروج من دوامة الصراعات يكون بطرح حدود جديدة ( حدود الشرق الاوسط الجديد).
وبالتالي فان الحدود غير المنصفة حسب وجهة نظر بيترز ولدت دوامة من الصراعات عصفت بالمنطقة وخلقت اضطرابات مشتعلة تتسع رقعتها يوميا بشكل متسارع، فانشاء حدود جديدة يأتي لانصاف الاثنيات والاعراق الموجودة في الشرق الاوسط، بالرغم من اختلاطها وتعايشها مثل الحالة السياسية المتصلة بالاكراد وغيرهم، وكذلك الصراع بين العرب واليهود سببها ايضاً الحدود ومدى انصافها للجميع، وبحسب بيترز ستبقى هذه الحدود القطرية تشكل( حدود الدم)، وقياساً على حدود الشرق الاوسط الجديد فسوف تنشأ دول جديدة وتكبر دول صغيرة وتصغر دول كبيرة.
جميع هذه الوقائع والمعطيات تدفعني للاعتقاد خاصة منذ مرحلة الربيع العربي وما رافقها من صراعات وصدامات، أن هناك عملياً ملامح تغير في الخريطة الجغرافية والسياسية في المنطقة، فعلى سبيل المثال نلحظ أن النفوذ الأمريكي في المنطقة بعد حرب العراق نتج عنه خلق حدود جديدة تمثلت بانشاء اقليم جديد( اقليم كردستان) بحدود جديدة للاقليم ضمن حدود دولة العراق، وهنا ترافق مع نشوء هذا الاقليم ظهور نفوذ أمريكي واضح في المنطقة الى جانب تشكل تحالفات جديدة مع امريكا، باتت واضحة المعالم خاصة بعد الضربة الايرانية لاسرائيل مؤخراً، حيث نشأ تحالف عسكري واقتصادي في نفس الوقت، من مظاهره بروز حلف مع امريكا وآخر مع ايران.
ومما لاشك فيه باعتقادي أن التغير الجاري في الخرائط يتزامن مؤخراً مع ما يجري من تغير لطبيعة النفوذ والتحالفات في منطقتنا، فهل يمكننا الحكم القطعي بأن التزايد الواضح في النفوذ الامريكي الذي يتزايد في المنطقة تدريجياً يعني أننا على أعتاب وربما دخلنا مرحلة حدود الشرق الأوسط الجديد؟، لذا اعتقد شخصيا أن بعض خرائط رسم الحدود للدول الحالية لم تكن منصفة، فمثلا لم يُنصف الاردن بالتقسيم الحدودي ويحظى بواجهة بحرية سخية على البحر الأحمر بل على حدود بحرية ضيقة مقابل حصول غيرها على واجهة بحرية أوسع، الأمر الذي يعني بأن مرحلة تشكل الشرق الاوسط الجديد التي أصبحنا نعيشها تتطلب لنجاحها الانصاف الجغرافي الحدودي للدول، يراعي أيضاً الانصاف السياسي والاقتصادي والأمني.
ومن الجدير الاشارة اليه أن خارطة النفوذ والتحالفات تظهر تراجعاً سياسياً واقتصادياً وأمنياً إلى جانب اندلاع حروب عرقية وصدامات بين ميليشيات مختلفة في الدول والمناطق التي يتسع فيها النفوذ التركي والايراني، مقابل انتعاش اقتصادي وعمراني وثقافي في الدول والمناطق التي ترتبط بتحالفات مع امريكا، ان ما اتمناه اليوم هو أن يكون طرح ( الشرق الاوسط الجديد) حلاً سياسياً يستطيع تجاوز المرحلة المتأزمة، ويقوم على استراتيجية مضمونها انصاف الدول حدودياً إلى جانب القدرة على حل القضايا المركزية المعقدة في المنطقة وبشكل عادل، ومنها القضية الفلسطينية والكردية بما في ذلك إنهاء الصراع الديني الدائر بين العرب واليهود، ليسود الأمن والسلام وتنتهي مرحلة طويلة عاشها الشرق الاوسط عنوانها الحروب والصراعات الدامية، لتتحول دول منطقتنا وبشكل مستحق ومأمول الى مركز تنمية عالمي يواكب دول العالم المتطورة، ويصبح أيضاً مناخ منطقتنا مثالي يسوده التعايش الديني وقاعدة احترام الآخر المختلف، في دول ومجتمعات يسودها الاخلاص والولاء الوطني بعيداً عن الطائفية والعنصرية، أي أننا نتطلع لدول مدنية متطورة تتميز باقتصاد أفضل وثورة عمرانية وصناعة وتعليم قائم على أعلى المقاييس، مع مراعاة حقوق المرأة العربية بما في ذلك حقها في الشراكة السياسية والتشاركية في بناء ونهضة الدولة.