رمزي الغزوي
أعجبتني الحملة الإلكترونية المثيرة التي شنّتها بعض من الفنلنديات، خلال الأيام الماضية، ونشر مقاطع راقصة لهن بصخب كبير؛ تضامناً مع رئيسة وزراء بلادهن الشابة سانا مارين، بعد مواجهتها لانتقادات حادة إثر تسريب مقطع مصور لها، وهي ترقص بإنشراح وتغني بمرح في حفلة منزلية خاصة.
حين ظهرت مارين على غلاف مجلة «تريندي» النسائية قبل ثلاث سنوات كعارضة أزياء أكثر من كونها رئيسة لحكومة، اتهمها بعض مواطنيها بتجاوز حدود اللياقة السياسية، بل وبإهانة مكانتها الرسمية وهيبتها القيادية، وآنذاك شُنت حملة تضامن موسّعة قلّدها المرحبون والمرحبات بنشر صور لهم تماثل صورتها على الغلاف، وكأنهم يشيدون بثقتها بنفسها وشجاعتها، ويدعمون حقها في حياتها الخاصة.
بعيدا عن برزخ رقيق يفصل بين ما هو عام وخاص، سيما في دنيا السياسية والسياسيين، يبدو لي أن العالم المزنر بالحروب والملطخ بالكروب بات يقاوم الرقص والراقصين، أنّى ومتى كانوا ووجدوا، بل ويتهمهم بالخروج عن متن السياق وهوامشه، سواء في بلدان تتصدّر قائمة الدول الأكثر سعادة كفنلندا، أو تلك القابعة في قائمة الأكثر تعاسة حسب شبكة حلول التنمية المستدامة التابعة للأمم المتحدة التي صدرت في آذار الماضي كلبنان.
فقبل أشهر انتشر فيديو قصير لوزير الطاقة اللبناني وليد فياض يرقص فيه على أنغام أغنية «نقّي لي أحلى زهرة» الرقيقة في أحد المطاعم، ما أثار غضباً كبيرا بين مواطنيه الذين اتهموه بالتقاعس والاستهزاء بمعاناتهم، وكيف له أن يستمتع بوقته الخاص، ويتجلى مع أنغامه وطيرانه، وهم يتكدّسون في معمعة عتمة شاملة وضنك شديد.
رغم نشاط وقدرات مارين في إدارة البلاد ومستوى الرضا عن أدائها إلا أن ثمة من يستكثرون عليها – وعلى من شابهها في أفلاك السياسة – بعضا من الفرح صحبة أصدقائها، دون أن يلحق ذلك ضررا بعملها. فالحكاية على ما يبدو ليست في السيدة الراقصة أو بغيرها من الراقصين أو المتقاعسين. بل يبدو أن الرقص صار مدانا مذنبا أكثر من أي وقت مضى، مع أنه لغة البشرية الأولى، والغزيزة المتغلغلة في أعماقنا الجوانية. الرقص يوازي فرك فانوس سحري حين نروم إطلاق الجني المختبئ في دواخلنا. هو طيران عال، وتسلق روحي. قديم حتى قبل أن يجني الإنسان سنبلته الأولى من أرض محروثة مروية. هو استلهام من زمن كنا فيه صيادين بكامل خفرنا ويقظتنا وخفتنا الحريرية. ومستدرج من فرحنا كنا فيه جامعي ثمار يمتشقون شجرة حبلى بالطيبات. الإنسان كائن راقص شاء من شاء وأبى من أبى.
وبعيدا عن هذا المديح لربما يرى البعض أن حياة السياسيين الخاصة تعدُّ حياة عامة بكامل أطرها وانعكاساتها، ومن حق الجمهور حينها أن يعرف كل ما له علاقة بالحياة الشخصية لمن يحكمه أو يدير دفة بلاده. أي لا حياة خاصة لسياسي سواء في العالم الثالث أو الأول. هم مشاع تستبيحهم عيون الكاميرات وترصدهم لصلصاتها، ومادة شهية يتهافت عليها أصحاب الشغف بالإعجابات والأخبار العاجل والحصرية.
العالم المازج بين الخصوصية والعمومية، لم يعد قادرا على الفصل بين شارع وشاعر، أو كاتب ونادب، أو راقص ومتقاعس.