عبد الرزاق المشاودي
“أغمض عيني وأتخيلني على مائدة الفطور في (الأحمدية) وأبدأ بالأكل فيطابق الطعم الذي فوق اللسان الصورة التي في الأذهان فتغمرني السعادة ويملؤني الفرح، يا لها من رحلة سعيدة أعود بها الى الديرة والدار محلقاً بجناحي حمامة الخيال”.
(كويت بغداد عمان) رواية للكاتب أسيد الحوتري والتي أعتبرها ثورة في عالم الرواية العربية بما تحمل من توثيق وربط وارتباط بأحداث مهمة جرت في ماضي عالمنا العربي ترتب عليها عديد من السلبيات، وقليل من الإيجابيات في واقعنا المعاصر. لقد وضع المؤلف إصبعه على جروح الأمة التي لا زالت تدمى ولا تدمل دون أن تُعالج مسبباتها إلى الآن. إن مرارة الهجر والتهجير لأشخاص ارتبطوا بالمكان والزمان والإنسان أمر جد موجع، وإن عدم قدرة سعيد على القيام بزيارة للمكان الذي نبتت فيه ذكريات الطفولة والصِبا التي سلبت منه قهراً تعتبر جريمة من الدرجة الأولى يتحملها مرتكبها، ولكنها أصابت الضحية في مقتل، وهذا ليس من العدل في شيء. لقد أفضى الأمر بسعيد إلى أن يتوسل الذكريات ليعود بواسطتها إلى ماضيه ليعيشه ولو لساعات قليلة. يغمض سعيد عينيه، ويطلق العنان لخياله الذي لم تستطيع الحدود والقوانين أن تقيده كما قيدت جسده، فعاد بالذاكرة إلى حيث كان، وكان مما تذكّر اجتماعه مع زملائه الطلاب على مائدة الإفطار في مدرسة الأحمدية الابتدائية للبنين في دولة الكويت.
لقد استعان الكاتب في روايته بأمثال شعبية، ومسلسلات، ومسرحيات، وأغاني كمُساعد قوي لإيصال القصد والمقصود من سرده. كذلك كانت هنالك أغنيات كويتية للأطفال، وأخرى خليجية حاضرة بشكل جلي في النص، وفي هذا دلالة إلى أصالة البطل وتعلقه بمسقط رأسه حيث نشأ وترعرع. يجد سعيد نفسه بين ليلة وضحاها خارج الكويت، محروما من العودة إليها لا لذنب اقترفه ولكن هكذا تشاء الأقدار. أصبح سعيد بعيداً كل البعد عن الأخِلّاء والأصدقاء حتى صار كساق البامبو الذي اقتلع من الأرض بقوة جائرة، ثم استبعدته الأرض التي احتوته من قبل، مع ذلك بقيت جذوره الروحية متشبثة بها؛ ويبدأ سعيد رحلة البحث عن أرض جديدة ليغرس فيها جذوره الحقيقة من جديد.
كان تصوير الكاتب لحنينه وإشاراته إلى ذكرياته تتسم بقدر كبير من الصدق والروعة. لقد تناول الروائي أشياء تبدو بسيطة ولكنها تلهب المشاعر وتدغدغ العواطف. لقد عرف الكاتب الكيفية الناجحة لتوظيف الكلمات، ففتل منها خيوطاً متقنة ما إن اجتمعت حتى شكلت حبكة متينة ومولودا جديدا في عالم الرواية. مولود خرج إلى النور في حدود دولة الكويت ابتداء ثم خرج من حدوها مآلا، مع ذلك فلما تزل رائحة (الديتول) في مستشفى الصباح/ قسم الولادة تعبق في أنفه.
أما عن لهيب المشاعر ودغدغة العواطف فيعكسها الكاتب في تناوله (لمريول) الروضة مع أغنية الأطفال التي تصور سعادتهم في أول يوم من العام الدراسي الأول “فتحي يا وردة / غمضي يا وردة”، وهذا ما يوقظ الطفل النائم بداخل القارئ. كما أن الجرح القديم الذي ترك ندبة في وجه سعيد صار مثيرا من مثيرات الحنين التي تستدعي زمن الطيبين كلما نظر سعيد إلى المرآة.
يبدو أن العودة إلى مسقط الرأس هو الدافع لكل ما كتبه سعيد في كشكول الذكريات. العود إلى دولة الكويت ليلقي نظرة على مستشفى الصباح التي شهد منبته، وإلى البيت والحي الذي سكنه، وإلى المدرسة التي تتلمذ على مقاعدها وتناول طعام الإفطار مع زملائه في صالتها الرياضية.
لقد قدم الروائي أسيد الحوتري وبكل حياد وثيقة (تأريخية) لأحداث مهمة عشناها من خلال الرواية، أحداث كتبت بمنظور عاطفي شخصي بعيدا عن أي منظور سياسي أو حزبي. لقد تعرفنا على الخاص والعام في حياة بعض الشعوب والأنظمة العربية من بداياتها وحتى اندثار بعضها من خلال هذه الرواية التي دائما ما كانت صادقة أكثر من كتب التاريخ المسيسة والتي وكما جرت العادة لا يكتبها المنتصر. أما رواية (كويت بغداد عمّان) فلقد كتبها البطل المهزوم المنكسر، لذا فهي أصدق بكثير من كتب التاريخ الرسمية. (كويت بغداد عمّان) رواية الشوق والحنين لزمن الطيبين لشخصية تبحث عن ضالتها بين أكوام من الأزمات والعقبات والحدود والقوانين والسدود. جاءت هذه الرواية على عكس ما يكتبه المؤرخون الذين قد يكتبون في الغالب لإرضاء الحاكم المتغلب بدافع الحصول على مكاسب مادية واجتماعية.
(كويت بغداد عمّان) رواية شيقة وماتعة، دوّن فيها الكاتب تاريخا وذكريات أرى بأنها ركبت قطار الحجاز قبل أن تصعد باص (فلسطين ٤٧)، وبعدها استقلت الذكريات (فورد موديل١٩٩٠) قبل أن تصل إلى العاصمة الأردنية عمّان.
كم تمنيت أن تكون الرواية أطول مما هي عليه لما فيها من تشويق ومتعة. أتمنى كذلك ألا يطول الحنين والشوق أكثر مما هو عليه فسعيد شخصية معنوية دالة على شخصيات عديدة قائمة بذاتها. أتمنى لسعيد ولكل من يمثلهم عودة حميدة، وبداية جديدة، وإطلالة سعيدة من أبراج كويت الخير .