د.حسام العتوم
حتى لا نذهب بعيداً وإياكم أعزائي القراء فأنا لم أختار عنواني أعلاه لمقالي التحليلي هذا من زاوية الانحياز لروسيا ضد أوكرانيا لا سمح الله وقدّر، أو لكوني تخرّجت من جامعة موسكو الحكومية (M.G.Y)، أو بحكم مصاهرتي مع الروس، فاوكرانيا عزيزة عليّ كما روسيا ولي فيهما ذكريات جميلة خاصة إبان الحقبة السوفيتية المشتركة.
وعودة إلى عنواني أعلاه، فلقد لاحظت تصعيداً لوتيرة العداء لروسيا من قبل أوكرانيا بيترو باراشينكا وتياره البنديري، وهو الملياردير الملقب بملك الشوكولاته الذي عمل بمعية الرئيس الأوكراني السابق يونوكوفيج وزيراً للاقتصاد وللخارجية، ثم انشق فجأة عن نظامه بسبب استعجاله إدخال بلاده للاتحاد الأوروبي من غير الحاجة للانتظار كثيراً، أو لتلقيه إشارة رفض من موسكو كما خيّل له، رغم عدم معارضة روسيا سياسياً لمثل هكذا خطوة أوكرانية تحتاج لدراسة متأنية ومتوازنة فوقع الفأس بالرأس وجاء الانقلاب الذي تم تعميده بانتخابات رئاسية في (كييف) العاصمة بتاريخ 25 أيار 2014 لم تجد موسكو مخرجاً له وقتها إلا الموافقة وفتح باب الحوار والتعاون.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا بقوة هو كيف تسلل التيار البندري المتطرف إلى السلطة في (كييف) بهذه السرعة مستغلاً موجة الفساد المستشري آنذاك في قمة وقاعدة النظام السابق الأوكراني الذي قاده يونوكوفيج؟ وهو الذي تواصل بطبيعة الحال بعد ذلك وحتى يومنا هذا. ولماذا لم يستطيع جهاز الـ(F.C.B) الروسي الاستخباري كشف الانقلاب الأوكراني قبل حدوثه خاصة وأنه مسؤول عن أمن وسلامة الرئيس المعزول يونوكوفيج؟ وموسكو كان يهمها بقاؤه في السلطة في المقابل؟
وأين كانت تقبع المخابرات الأوكرانية (C.B.Y) حينها؟ وما هو دورها ومصلحتها في عدم إزالة اللثام عن هكذا انقلاب أدارت بوصلة أوكرانيا عن روسيا (24) درجة؟
ولاحظنا بعد ذلك وتحديداً عام 2016 كيف عمل الرئيس الحالي باراشينكو على إعادة هيكلة مخابرات بلاده وتنظيفها من رموز نظام سلفه يونوكوفيج.
والتيار البنديري بالمناسبة تعود جذوره إلى الحرب الوطنية العظمى (الثانية) 1939 – 1945، إبان وقفته المشهودة إلى جانب أدولف هتلر، وهو المنتشر في غرب أوكرانيا ومعروف بتطرفه وبعدائه لكل ما هو روسي على مستوى السياسة والاقتصاد واللغة والثقافة، وشكل محركاً رئيساً لنغمة العداء وموسيقاها وسط بسطاء الأوكران بهدف تحويل غرب أوكرانيا أولاً إلى حالة العداء الكامل ومن ثم النخر في شرق أوكرانيا الأكثر تضرراً من سياسة كييف وسطوتها، ولو كان لجهد نظام (كييف) الحالي خيراً وبالاتجاه الصحيح لذكرته هنا بكل تأكيد، ولما عملت أوكرانيا الجديدة على رفض معاهدة (مينسك) الهادفة منذ انطلاقتها عام 1993 لردم فجوة الصراع الدائر بعدالة وإنصاف ومن دون الحاجة لدعوة الشرق للانفصال، ولا مقارنة بالطبع مع إقليم القرم/الكريم الروسي غير القابل للجدل حول شرعيته الروسية بكل تأكيد وهو الذي تعافى اقتصادياً أضعافاً مضاعفة الآن وبحجم (6) مرات.
وثمة فرق بين الوطنية وحب الوطن الأوكراني المستقل عن الاتحاد السوفييتي منذ عام 1991، وأحقية التوجه للتعاون مع وإلى أي اتجاه غربي أو شرقي، وشرعية استخدام اللغة الأوكرانية وسط سكان أوكرانيا البالغ عددهم حوالي (43) مليون نسمة، وبين التطرف وإدارة الظهر لروسيا تحديداً رغم التاريخ المشترك، وحتى المجاعة السوفيتية الواحدة في عمق ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، وبوجود أهمية معاصرة للغة الروسية العقل الرابط لكل البناء السوفييتي السابق ولشعوب الحاضر المنسلخة عن الماضي شرقاً وبحجم عالمي يقارب اليوم حوالي (500) مليون نسمة في زمن يتصاعد فيه برنامج وشعار مؤسسة (روسكي مير – عالم روسيا) ليتحدث كل العالم باللغة الروسية، ولا يوجد ما يمنع استخدام الإنجليزية وكل لغات العالم الهامة في أوكرانيا أيضاً.
وليس انحيازاً مع روسيا عندما نقول بأن ستبيان بانديرا المولود عام 1909 والمتوفي عام 1959، هو سياسي أوكراني وزعيماً لمنظمة القوميين الأوكرانيين المتطرفة، التي أنشئت في النصف الأول من القرن العشرين وقاتلت في البداية البولنديين ثم تحالفت مع النازية ضد الاتحاد السوفييتي، وتم حظرها إبان الحكم السوفييتي وكانت تسعى لاستقلال أوكرانيا إلى أن كان لها ذلك طوعاً عام 1991 بعد ظهور صيحة البيريسترويكا على يد غورباتشوف وأعوانه.
كتب وسام نحلة وبثه موقع الأخبار 3 آذار 2014 بأن القوى السياسية في شبه جزيرة القرم تدرك خطر الترويج للفكر المتطرف، ومحاولات إعادة كتابة التاريخ، ومن هنا تلتزم الولاء لموسكو، وترفض الاعتراف بسلطة الانقلابيين، فالقوميون الأوكران الذين يحملون أفكار نازية فاشية في كثير من الأحيان، هم من يتحكم في المشهد الميداني والسياسي في أوكرانيا، معلنين عداءهم لروسيا وللمنحدرين من أصول روسية، ما يجعل المناطق الشرقية، ذات الجذور الروسية، تنظر بريبة إلى ما يجري. (انتهى الاقتباس).
وتعليقي هنا هو أن الانقلاب البندري برئاسة بيترو باراشينكا وإن تمكن من إحداث تغييرات في وجه أوكرانيا سياسياً، فإنه لن ينجح اقتصادياً في جر أوكرانيا صوب الاتحاد الأوروبي وأمريكا وبسهولة، وسوف يخسر القطب الروسي سياسياً واقتصادياً، ولا حاضر ولا مستقبل من دون الماضي والتاريخ المشترك العريق، وشخصياً شاهد عيان على صلابة العلاقات الوطيدة بين الشعبيين العظيمين الروسي والأوكراني أثناء فترة جلوسي على مقاعد الدراسة الجامعية بكافة مراحلها، ولا زلت أذكر كيف أن الروس وأنا معهم كنا نسافر (18) ساعة، وغيرنا أكثر لشراء (الجاتو) الأوكراني اللذيذ والمعروف آنذاك باسم (كيفيسكي – تورت)، وحتى الآن لا زالت القرى الحدودية الروسية الأوكرانية وبالعكس مثل (جيرتيكوفا) تتحدث لغة ممزوجة بالروسي والأوكراني، ولا زالت فواتير الكهرباء التابعة لعائلات أوكرانية تدفع في روسيا الدولة المجاورة، والمثل الشعبي الروسي يقول لسانك يوصلك لكييف إن لم تصونه.
ولتعزيز الديموقراطية على ارض أوكرانيا البالغ مساحتها اكثر من (603 ألف كم2)، والموزعة داخلياً على (24) محافظة ومنها (سيفاستوبل) التي تضم أسطول البحر الأسود، وهي المستقلة مرتين عامي 1945 بعد مشاركتها في تأسيس الأمم المتحدة، و1991 بعد انسلاخها عن الاتحاد السوفييتي، وبعد حراك الحكم الذاتي دونيتسك ولوغانس في إقليم الدونباس، وظهور رغبة الانفصال والتحرر ورفض انقلاب (كييف)، جاءت اتفاقية (مينسك) التي رفضها قانون البرلمان الأوكراني داعياً لإعادة ضم الدونباس بالقوة، وهي التي وقعت أول مرة عام 2014 في عاصمة بيلاروسيا (البيضاء) بمشاركة كييف والانفصاليين برعاية روسيا ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، ونصت على إنشاء منطقة عازلة، وسحب السلاح والمقاتلين إلى خارجها، وإلى عدم المساس بالسكان ولمنع تحليق الطائرات من دون طيار، بينما ورد في اتفاقية (مينسك 2) وقف إطلاق النار، وإلى سحب الأسلحة الثقيلة، ولتوسيع المنطقة العازلة من (15 كم) إلى (30 كم)، ولانسحاب الجيش الأوكراني عن خط التماس.
إذن كل ما تريده روسيا وبعد موافقتها للجلوس مع أوكرانيا سابقاً قبل إعلان العداء والمقاطعة لها من قبل كييف، ومع بيلاروسيا (البيضاء)، ومع ألمانيا، وفرنسا هو الوصول إلى مرحلة الاستقرار والعلاقات الطبيعية الطيبة المرتكزة على الحاضر المعاصر وعلى الماضي العريق المتلاحم والمشترك وبنوايا طيبة بعكس ما نسمعه تماماً من وسط أوكرانيا وعبر الطلبة القادمين إلينا من هناك الذين يصفون لنا حالة الكريهة والعداء بأنها مرعبة، ويقابلها انتشار للفقر والبطالة، وخسران للرهان الأوكراني على الاتحاد الأوروبي والغرب من جهة، وللفدرالية الروسية الجارة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الهامة ذات الوقت.
وللمقارنة بين شرق وغرب أوكرانيا والعلاقة مع حدث الاهتزاز السياسي الانقلابي في كييف الأخير، نجد ان كل ما يعني شرق أوكرانيا ما يقع شرق نهر الدنيبر (خاركوف، لوغانسك، دونيتسك) ودنيبرو – بيتروفسك، وزاباروجه، واللغة الروسية هي السائدة بقوة هناك إلى جانب الأوكرانية بطبيعة الحال، وروسيا بالمناسبة جاره مساعده وداعمه لحياة بسطاء الناس شرقاً، وهي ليست محتلة كما يشاع وسط الغرب الأوكراني وأبعد، ومساحة الفدرالية الروسية التي تزيد عن (17 مليون كم2) تؤكد ذلك، ولا علاقة لموضوع ضم إقليم القرم/الكريم روسياً بالحسابات (الاحتلالية) الأوكرانية.
وثقافة شرق أوكرانيا مختلفة تماماً حول ما يتعلق بمكانة اللغة الروسية، والبناء السوفييتي العريق، وبشأن سلبية القومية الأوكرانية وارتكازها على نبرة (الأنا) و(70%) من اقتصاد أوكرانيا متوفر شرقاً حيث الصناعات الثقيلة السوفييتية الأصل، ومناجم الفحم الحجري، وصناعة السيارات، وانتشار الجامعات، وانحدار ديموغرافي شرقي من أصول روسية، ورفض جذري شرقاً لتوسع حلف (الناتو) وسط الأراضي الأوكرانية، ومطالبة شعبية بحكم ذاتي في إطار أوكرانيا.
وفي المقابل فإن غرب الأوكراني مصطلح سياسي وجغرافي وديموغرافي مختلف ويعج بالمدن الهامة والتي من أهمها العاصمة (كييف)، والتيار البنديري المتطرف سابق الذكر يتوغل هنا، وهو محاذي لأوروبا، ويميل لأمريكا، وغير معني سياسياً بالارتباط مع القطب الروسي رغم حاجته الاقتصادية للغاز الروسي تحديداً، و(80%) من صادرات الغاز الروسي تمر عبر الأراضي الأوكرانية إلى أوروبا، وتمتلك أوكرانيا من احتياطات النفط (395) مليون برميل، ومن الغاز المحلي (40) ترليون قدم مكعب، ومن الفحم (38) مليار طن، وتوليد الكهرباء وصل إلى (177) مليار كيلوواط، ويقابل هذه المعادلة استهلاكات كبيرة، وتوجه أوكراني وطني للخصخصة في مجال طاقة تكرير النفط.
وأزمة ديون متكررة على أوكرانيا جراء استخدامها للغاز الروسي نمذ عام 2006، وحسب وزير الطاقة الروسي الكسندر نوفاك (2017) فإن أوكرانيا توقفت عن شراء الغاز الروسي منذ عام 2015 وتعتمد منذ ذلك الوقت على الضخ العكسي من أوروبا. وخلافات مالية بين (كييف) و(موسكو) بشأن ديون الغاز المستورد من روسيا تصل إلى (18) مليار دولار وحديث إعلامي عن سداد أوكرانيا لديونها الروسية. وبعد فشل اتفاق (مينسك) ورفضه بالمطلق من قبل (كييف) اقتراح الرئيس بوتين نشر قوات لحفظ السلام على حدود دونياس، وهو ما أثاره وزير خارجيته سيرجي لافروف في ألمانيا بتاريخ 18 شباط 2018 في مؤتمر ميونخ قوبل بالرد الإيجابي من قبل ألمانيا بعد عرضه على مجلس الأمن.
وما يتعلق بإقليم القرم/الكريم، فإن الواجب يقتضي الإنصاف، والإصغاء للطرفين المختلفين حوله، والبالغ مساحته (26 ألف كم2) وبعدد من السكان وصل إلى حوالي مليوني نسمة، والمالك لأسطول حربي استراتيجي روسي نووي، وفي تاريخه القديم كان التتار ولا زالوا، وشهد منتجع (يالطا) على شواطئه اهم اجتماع وضع نهاية للحرب الوطنية العظمى (الثانية) عام 1945 بحضور زعماء الولايات المتحدة الأمريكية (فرانكلين)، والاتحاد السوفييتي (ستالين)، وبريطانيا (تشرشل)، وشكل تعداد التتار (12,10%) عام 2001، والروس (58%) والأوكران (24%) مع تواجد كبير للمسلمين.
والتاريخ شاهد عيان على العمق الروسي للقرم/الكريم، وفقط وبحكم الأصل الأوكراني للزعيم السوفييتي نيكتا خروتشوف دخل القرم الفضاء الأوكراني، وبعد انهيار المنظومة السوفييتية عام 1991 استمر القرم حاضراً تحت المظلة الأوكرانية مع الأخذ بعين الاعتبار للتاريخ الروسي للجغرافيا الأوكرانية وهو ما كان يطلق عليه في عمق التاريخ (كييفسكايا روس) قبل عام 1230 ميلادي.
وفقط في عام 2014، وتحديداً عقب الثورة الأوكرانية التي أطاحت بالرئيس فيكتور يونوكوفيج المحسوب على موسكو (الشيوعي السابق)، وهو الذي أدار أوكرانيا كرئيس منتخب بسلطات محدودة لم يستطع من خلالها كشف المؤامرة التي أحيكت ضده مبكراً من قبل التيار البنديري، وفي المقابل لم يكن زعيماً ذا شعبية وسط الأوكران في زمن هيجان تداعيات الثورة البرتقالية التي عصفت به، ولم يتمكن من الصمود على غرار ما فعله الرئيس بشار الأسد في بلده الهائج سوريا ذات الوقت مثلاً. وكادت الأحداث في القرم وحوله بداية أن تتحول إلى صدام عسكري أوكراني – روسي لولا حكمة ساسة روسيا وفي مقدمتهم الرئيس بوتين، فجاء استفتاء القرم على سيادته عام 2014 فصوت (95,5%) من ناخبي شبه الجزيرة أي من أصل (82,71%) من الناخبين لصالح عودة القرم/الكريم لروسيا، فيما صوت (3,5%) مع بقائه أوكرانياً. ودعم سيادة القرم الروسية قرار مجلس الدوما الروسي بتاريخ 20 آذار 2014 وصادقه بوتين شخصياً.
وعلى الطرف الآخر لم تهدأ أوكرانيا (السلطة)، فعملت على إثارة قضية القرم/الكريم في الأمم المتحدة، وداخل مجلس الأمن، لكنها لم تفلح أمام الإصرار الروسي على شرعية عودة الإقليم أعلاه المتنازع عليه لبيته روسيا، وهو الذي أشبه بعودته انضمام السيف لغمده بعد (64) عاماً على عيشه على شواطئ الجارة أوكرانيا.
1 تعليق
وسام نحلة
تحياتي لك
تحليلك منطقي و واقعي