د فخري النصر
النسيان
النسيان (Forgetting )هو عَدم القدرة على استِرجاع المعلومة عند الحاجة إليها وطلبها , وهو عِلاجٌ فعّال لكثيرٍ من الصّدمات وأزمات الحياة والمواقف الصعبة التي نمر بها ، ولكنّه إذا أثّر بشكلٍ سلبي على تفاصيل الحياة ومجرياتها ، كنسيان الأسماء ومواعيد تناول الأدوية، أو المواعيد الاجتماعية والرسمية ، والاوامر العائلية والطلبات المنزلية وغيرها من الأمور الضرورية في كل يوم .
والنسيان يصيب البشر جميعاً دون تميز , ولكن على مستويات مختلفة، فهو ان تخطّى مستوى معيّناً قد يتطوّر ليصبح مرضاً مزمنا يصعب علاجه والتّخلص منه غالباً ,او امر عادي بتعرض له الانسان نتيجة مشاغل الحياه المختلفة , ويحتاج الانسان الى وقتٍ طويلٍ كي ينسى ما يعيشه او يصادفه من ظروف او حوادث او صور معينة , ولو نعمة النسيان لعاش الانسان في قلق ونكد وكبد ويقي يتذكر السوء الذي مره به طوال حياته ,من فقدان عزيز او اساءة تعرض اليها او موقف سوء مر به .
والنسان مختص بالبشر فقط , ونفي الله عن نفسه صفة النسيان وذلك في قوله تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ( مريم 64 ) ، وكذلك في قوله تعالى :.. لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى ( طه 52 ) , وأن الرسل والأنبياء معرضين للنسيان بواسطة عمل الشيطان ويتضح ذلك في قوله تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( الأنعام 68 ) وقوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ( الكهف 24 ).
والإنسان دائماً يتعرض للنسيان ، فيقول المثل “جل من لا يسهو” . ومصدر النسيان في القرآن واضح ، وهو عمل الشيطان وذلك في الآيات التالية :• ” وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ” ( يوسف 42 ) .• ” قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ” ( الكهف 63 ) .
وقد أنعم الله على البشر بنعمة النسيان. فأنت لست في حاجة إلى تذكر كل تفاصيل حياتك من يوم مولدك، فأغلبها تفاصيل تافهة ومكررة ولا معنى لها. ونظراً لأن قدرة ذاكرة الإنسان وطاقتها محدودة فإنه من الملائم استخدام هذه الطاقة بكفاءة فيما هو أكثر أهمية. ولذلك فمن الأفضل ألا تحتفظ فيها بكافة التفاصيل، بل ومن المصلحة أن تتخلص من جانب منها دون خسارة كبيرة.
وكذلك فإن النسيان لا يقتصر فقط على الأمور الأقل أهمية بل أنه يتعلق أحياناً بأمور أخرى بالغة الأهمية ولكنها مؤلمة، ولذلك فإن النسيان يعتبر علاجاً صحياً لتخفيف الآلام على الفرد. فأنت تفقد عزيزاً، الأب أو الأم أو الأخ، وهي ذكرى غالية ولكنها مؤلمة. ومن هنا يأتي النسيان كعلاج للفرد وبما يمكنه من الاستمرار في حياته العادية بدرجة أقل من الألم. وهكذا فإن النسيان يعتبر نعمة كبرى لاستمرار الحياة وتقدمها دون منغصات شديدة.
وهناك نعمة اخرى انعمها الله علينا وهي الذاكرة, فهي العنصر الرئيسي لتحقيق هوية الإنسان. فإذا كان الإنسان كجسد يتكون من خلايا، فإن هذه الخلايا تموت وتتجدد بشكل مستمر باستثناء خلايا المخ، ولو ان خلايا المخ مات وتجددت لأصبح الانسان مختلف كل يوم. ربما لا تتجاوز ثلاث سنوات ـ تتغير معظم خلايا الجسد، وبالتالي فأنت شخص جديد.
والشيء الوحيد الذي يحفظ للإنسان هويته واستمراره هو الذاكرة. فالذاكرة هي الصلة الوحيدة الباقية والمستمرة بين يوم الإنسان وأمسه، ودون ذلك يصبح الانسان كل يوم شيئاً جديداً ومختلفاً لا صلة له بين ماضٍ ومستقبل، بل أن فكرة المستقبل كلها تتلاشى فالحياة تصبح لحظية , لحظات متقطعة لا صله لها بالماضي.
ومن هنا، فالذاكرة بطبيعتها انتقائية فيما تحتفظ به وما تتخلى عنه. ويذهب علماء النفس إلى أن النسيان درجات، فهناك ما يسقط كلياً من الحساب، ولكن هناك ما يتم الاحتفاظ به في اللاوعي بدرجاته المتنوعة ,وإذا كانت الذاكرة والنسيان من نعم الله الكبرى، فلا يقل أهمية أن يقوم نوع من التوازن بينهما. فإذا كانت الذاكرة قوية وطاغية بما لا يدع مجالاً للنسيان، فإن حياة الإنسان تصبح مرهقة وقاسية، بل وقد يصعب عليه اتخاذ القرارات، عندما يسترجع في كل لحظة وعند كل قرار كل تاريخه وأحداثه بما يضعه أمام آلاف الاحتمالات المتناقضة. وعلى العكس فإذا غلب النسيان على الذاكرة بحيث لا يكاد الفرد أن يتذكر شيئاً من خبرته السابقة، فإنه يفقده عقله وهويته وبالتالي قدرته على تمحيص الأمور واستخلاص النتائج لاتخاذ القرارات.
ولذلك فمن المطلوب أن يتحقق لدى كل فرد قدر من التوازن بين الذاكرة والنسيان. فبدون ذاكرة كافية قد يختفي العقل، ولكن دون نسيان قد يرهق العقل وينسحق تحت عبء الذكريات المتزاحمة. فعلاقة التوازن بين الذاكرة والنسيان أشبه بالمشكلة الاقتصادية في حسن استخدام الموارد، وذلك بتوظيف طاقات المخ وخلاياه المحدودة للتذكر دون إغراقها بالتفاصيل فيما لا طاقة لها بها أو فائدة منها من ناحية، ولكن أيضاً دون تركها معطلة وغير مستخدمة من ناحية أخرى. فالنسيان صمّام أمان للذاكرة يسمح بالاستخدام الأمثل لها دون إفراط أو تفريط , وهناك أربعة أنواع من الذاكرة وهي:
1- الذاكرة الحسية (الوقتية ): وتُمثّل المستوى الأول للذاكرة، وتستمرّ لفترة قصيرة جداً (3 ثوان)؛ حيث تحفظ هذه الذاكرة الانطباعات عن المؤثّرات الحسية، أي التي تمّ تلقّيها من خلال الحواس الخمس، ومنها الذاكرة السمعيّة والبصرية.
2- الذاكرة قصيرة المدى: هذا النوع من الذاكرة محدود فيما يتعلّق بكميّة المَعلومات التي تُخزّنها والمدّة الزمنية التي تخزنها فيها؛ إذ تعمل هذه الذاكرة ما بين 30 ثانية – 3 أيام, وهي كتذكرك عنوان تذهب اليه بعد ساعة او حفظ رقم هاتف.
3. الذاكرة الدائمة (العاملة) : يُمكن تعريف الذاكرة العاملة بأنّها مَخزن مؤقّت لكمية محدودة من المعلومات، يُمكن استخدامها لإيجاد أفكار وخطط عمليّة وتنفيذها، وتحويل المَعلومات واستخدامها في اتّخاذ القرارات أو الحسابات ,وهي لكل ما يتعلق بحياة الانسان كافة.
4-الذاكرة طويلة المدى: هي ذاكرة ذات قدرة تخزينيّة طويلة قد تمتدّ لعدة عقود، ومن أجل تثبيت المَعلومات يجب أن تنتقل من الذاكرة الحسيّة أو قصيرة المدى إلى الذاكرة طويلة المدى.
وهناك أسباب كثرة النسيان يُعزى اليها النسيان منها:
•سوء التغذية: للتغذية دور مهم في تحسين الصحة البدنية والذهنية، التغذية السيئة غير الصحيّة تُعيق وظائف الدماغ، وتُعيق القدرة على التفكير وتضرّ الذاكرة، , وللحصول على تغذية داعمة للذاكرة يجب أن يحتوي الغذاء اليومي على: فيامين B12، الذي يؤدّي دوراً مهمّاً في صحة الدماغ والأعصاب، وفيتامين حمض الفوليك الذي يُعزّز التركيز والذاكرة, وتناول الكثير من الطعام حتى وإن كان صحيّاً يؤدّي إلى الإضرار بوظائف الدماغ كالتفكير، والتذكر، ويزيد من احتمال الإصابة بالزهايمر .
•تَعاطي المخدرات أو الكحول وبعض أنواع الأدوية: تناول المشروبات الكحوليّة يُسهِم في إتلافِ خلايا الدماغ ويؤثر على وظائفه بما في ذلك الذاكرة، كما أنَّ تناول الأدويةِ المنوّمة له دور في إضعاف الذاكرة.
•التوتر وقلة النوم توثر على الذاكرة، لأنّهما يُعرقلان التركيز، ويؤثّران على قدرة الدّماغ على تَخزين واستِدعاء الذكريات، و تُشير الدراسات أن النوم العميق يُعزّز الذاكرة، وأنَّ الإصابة باضطراب توقف التنفس أثناء النوم من أسباب تدهور الذاكرة المكانية، وعدم القدرة على تحديد الاتجاهات.
•الاصابة في الراس , قد توثر الاصابة في الرأس على وظائف الدماغ بما في ذلك الذاكرة، ومن المعلوم أنَّ الإصابة بالسكتة الدماغيّة الصامتة، أو موت خلايا المخ تُسبّب انسداد الأوعية الدموية الصّغيرة في الدماغ، والذي يتسبّب بدوره في ضعف كفاءة الذاكرة، كما أنّ التهاب الدماغ وأورام الدماغ أيضاً تؤثّر على فعالية الذاكرة.
•التدخين: لا تقتصر تداعيات التدخين على آثاره على الصحة البدنية فقط بل تتعداها للصحة الذهنية والذاكرة؛ حيث تُشير الدّراسات إلى أنّ المدخن يجد صعوبةً أكبر في الرّبط بين وجوه الناس وأسمائهم، مقارنةً بغَير المُدخّن.
•الخرف: يتّسم مرض الخرف بحدوث تدهور في الذاكرة والتفكير والسلوك، ويُعدّ مرض الزهايمر من أكثر أسباب الخرف شيوعاً، بالإضافة إلى أمراض الأوعية الدموية، .
•اضطرابات الغدة الدرقية: يؤثّر اضطراب مستوى إفراز هرمون الغدة الدرقية على الوظائف الحيويّة للجسم ومن ضمنها وظائف الدماغ ممّا يؤدي إلى ضعف الذاكرة.
•الاكتئاب: قد تكون حالات الاكتئاب التي تُصيب الفرد هي السّبب في كثرة النسيان وفقدان التركيز .
•الانعزال وضعف التواصل الاجتماعي: التّواصل الاجتماعي مفيد جداً للدّماغ ولتحسين المزاج بشكلٍ عام، وإنّ الأشخاص الّذين يَتواصلون باستمرار مع أصدِقائهم يكونون أكثر سعادة، وأكثر إنتاجيّة، وأقلّ عرضةً لتدهور وظائف الدماغ، والنسيان.
وهناك عدة طرق فعّالة وسهلة لتحسين الذاكرة منها:
•تقوية الذاكرة بذكر الله ( واذكر ربك اذا نسيت ), وقوة الايمان التقرب الى الله والصلاة على سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام
•التركيز على شيء واحد فقط: رغم تعدّد المَهام التي يجب على الفرد إنجازها، إلا أنّه من الضروريّ التركيز على مهمة واحدة فقط كل مرة؛ لأنّ الدماغ بحاجة لوقتٍ كافٍ للتّعامل مع كل معلومة وحفظها لاسترجاعها في وقت لاحق.
•استعمال الحواس الخمس في عمليّة تخزين المعلومات: كلما ازداد عدد الحواس المُستخدمة عند تلقي المعلومات أصبح تَرسيخها في الدماغ أقوى، وتزداد إمكانية استرجاعها بسهولة؛ حيث يُمكن ربط معلومة مُعيّنة برائحة أو صوت مُعيّن مثلاً.
•التكرار: قيل قديماً التكرار يُعلّم الشطار، وهذه المَقولة صحيحة، فعند تكرار معلومة أكثر من مرّة تزداد قدرة الدماغ على حفظها .
•تقسيم المعلومات إلى وحدات: حفظ المعلومات كما هي كوحدة كاملة يُبطِىء من الحفظ ويزيد من احتمال نسيانها، وتَجزئة المَعلومات الكبيرة إلى أجزاء صغيرة وحِفظ كل جزء كوحدة منفصلة يساعد على سهولة الحفظ .
•تنظيم المعلومات: الدماغ يحبّ التنظيم؛ لذا يجب إدخال المعلومات المُراد تذكّرها بانتظام إلى الذاكرة، فما تمّ إدخاله بانتظام يسهل استدعاؤه وتذكّره.
•استخدام الروابط: من الطرق المفيدة لحفظ المعلومات المعقدة هي ربطها في الذّهن بصورة أو أغنية أو جملة مما يُسهل تذكرها بصورة أفضل، من الممكن تجميع الحروف المُراد حفظها في تعبير واحد.
•تناول الأغذية المُفيدة لصحة الدماغ: مثل الأغذية الغنية بأوميغا 3؛ فهي من مضادّات الأكسدة القوية التي تحمي خلايا الدماغ، ومن مصادرها: الأسماك، والجوز، والتوت البري.
• ممارسة النشاط البدني: ممارسة الرياضة تزيد من حَجم الجزء المسؤول عن الذاكرة في الدماغ ممّا يُحسّن من قدرة الإنسان على الحفظ وتشكيل الذكريات الجديدة.
• ممارسة ألعاب تنمية الذاكرة: هناك بعض الألعاب التثقيفيّة التي تُعتبر مثاليّةً لتمرين العقل وتنشيطه.
• التعرض لأشعة الشمس فهي مصدر الشّعور بالطاقة والتركيز، وتزيد من فعاليّة الدماغ؛ حيث إنّ قلّة التعرض لضوء النهار الطبيعي يؤدّي إلى الاكتئاب ويُعرّض الإنسان للنسيان.
وأخيرا أخي العزيز فأذكرك بأن المداومة علي الإستعاذة بالله من الشيطان الرجيم تبطل مفعول عمل الشيطان ، بمشيئة الله ، فإذا نسيت أمراً ما فأعلم أنه من الشيطان وبادر بالإستعاذة بالله من الشيطان الرجيم . وذلك تصديقاً لقوله تعالى : ” وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ” فصلت 36 .