أُسَيْد الحوتري
تخلو الساحة النقدية العالمية من مناهج نقد عربية، وكل ما يفعله النقاد العرب هو تطبيق مناهج النقد الغربية على النصوص المختارة. هذا الغياب لمناهج نقد عربية يحز في النفس ويرسخ فكرة السيد والتابع، المركز والهامش، فالغرب هو المخترع والمبتكر والصانع أما العرب فثلة من المستهلكين. على الرغم من هذا فإني أرى أن هنالك إمكانية لولادة مناهج نقد عربية متعددة. قد يبدو هذا بالأمر تفاؤل غير مبرر أو حتى ضربا من ضروب الخيال، إلا أن أرض النقد الثقافي أرض خصبة ومعطاءة. فالنقد الثقافي لا يركز على جماليات النص من حيث الشكل والمفردات والجمل والنحو والصرف والصوت والبلاغة، كما يركز عليه المنهاج النقدي الشكلاني، أو البنيوي، أو النقد الجديد، بل يبحث النقد الثقافي في النص عن المضمون والأفكار المضمرة والتي تروّج عن قصد، أو عن غير قصد لأفكار ومشاعر وعادات وممارسات قد تسيء للمجتمع أو تشكل ضرارا أو خطرا عليه
النقد الثقافي هو نقد يحاول إماطة لثام الجمال عن المضمون الثقافي القبيح المُضمر في النص. إن أمعنا النظر في النقد الثقافي سنكتشف بأنه مجموعة من القضايا المهمة لمجموعة من الناس والتي تم تبنيّها من قبل مجموعة من النقاد كرسوا أنفسهم للبحث عن هذه القضايا في النصوص الأدبية ليعاينوا الطريقة التي قام الكاتب بالتعامل بها مع قضاياهم. فالنقد النسوي، مثلا، هو تبني لقضية المرأة وحقوقها المهضومة من قبل الرجل، والنقد الماركسي الاجتماعي هو تبني لقضية العمّال وحقوقهم المسلوبة من قبل أصحاب رؤوس الأموال، أما النقد البيئي فهو تبني لقضية البيئة والضرر التي تتعرض له البيئة من قبل الإنسان، وهذا ينسحب أيضا على النقد التاريخاني الجديد، فالنقاد هنا يتبنون قضية الحقيقة التاريخية والتشويه التي لحق بها على يد السلطة، فلا تظهر السلطة من الحقائق التاريخية إلا ما يخدمها، وتغض النظر تماما عن الحقائق الأخرى، وكذلك هو الحال مع النقد الما بعد استعماري/كولونيالي الذي يتبنى قضية الشعوب التي وقع عليها ظلم المستعمر المحتل وخداعه وحيله؛ كما أن نظرية النقد العرقي قد تبنت قضية الدفاع عن الأقليات المهمشة عرقيا ولونيا. ولا تتوقف المناهج النقدية الثقافية هنا، بل ويحتضن النقد الثقافي قضية كانت تعتبر منذ قريب شذوذا، فلقد تبنت مجموعة من النقاد قضية المثليين وانخرطوا في “منهاج نقدي مثلي”(queer theory) للدفاع عن صورة المثليين في الأدب! أعتقد أن هذه الأمثلة تثبت فيما لا يدع مجالا للشك بأن النقد الثقافي يقوم على تبني قضية ما مهمة لجزء من المجتمع أو للمجتمع ككل من قبل مجموعة من النقاد.
ومن هنا أنطلق، وأقترح بأن يبحث النقاد العرب عن أبرز القضايا المهمة لمجتمعنا العربي ليتبنوا هذه القضايا ويصيغوها على شكل مناهج نقدية عربية تسخدم في قرآءة النصوص وتحليلها فيما يخدم هذا المجتمع.
وبما أن عدد من دولنا العربية تعاني من تغول السلطة وفسادها وقمعها للشعوب، أقترح بأن يتبنى النقاد العرب قضية تحرر الشعوب من السلطات الظالمة وفضح أساليبها وتفكيك مقولاتها وذلك في محاكاة واضحة للنقد الما بعد كولونيالي الذي تبني قضية التحرر من نير المحتل/ المستعمر وفضح أسالبيه وتفكيك مقولاته المركزية. ويمكن هنا أيضا أن نستعير مفهوم السلطة عند الفليلسوف الفرنسي (ميشيل فوكو)، فالسلطة عنده ليست السلطة التي تحكم الدولة فحسب، بل هي في كل مكان وفي كل اتجاه. لذلك ستكون قضية التحرر من السلطات الفاسدة مرتبطة بكل أشكال السلطة على اختلافها واختلاف مواقعها سواء كانت هذه السلطة على رأس الدولة أو على رأس مؤسسة حكومية أو مؤسسة خاصة أو حتى على رأس حمولة أو عشيرة أو قبيلة أو حتى أسرة، فكلنا راع وكلنا مسئول عن رعيته. أقترح اعتماد منهاج نقدي يطلق عليه اسم (النقد السلطوي) بحيث يبحث في العلاقة بين الراعي والرعية، ويبحث في الظلم الذي تتعرض له الرعية أينما وجدت، فيمعن الناقد النظر في الصورة التي يقدمها الكاتب للراعي أينما كان، ويمعن النظر أيضا في صورة الرعية، ثم يدرس ويحلل طبيعة العلاقة التي تربط بين الطرفين ليصل إلى أسباب توتر العلاقة بينهما أو انسجامهما، والكيفية التي يُفترض أن تكون عليها هذه العلاقة، والكيفية الموجودة بها على أرض الواقع، والسبيل لإعادة هذه العلاقة إلى طريقها القويم.
من الممكن أيضا أن نوسع دائرة التركيز في (النقد السلطوي) بحيث يقوم الناقد بتسليط الضوء على أهم المشاكل التي تقع فيها السلطات الحاكمة أو تتسب بها أو تخفق في علاجها وهي كما يأتي:
(1) سوء إدارة الحكم. (2) الفساد. (3) الاضطراب السياسي. (4) الحروب الأهلية والخارجية. (5) الأمية والجهل.
(6) القبلية. (7) الأمراض وسوء التغذية. (8) ضعف البنية التحتية. (9) الفقر. (10) الاعتماد المفرط على الدول الغربية والارتهان لها.
كما يمكن أن نوسع دائرة هذا المنهاج النقدي ليقرأ تأثير سلطة الدول الكبرى والشركات والمؤسسات والجمعيات الكبرى التي تحكم هذا العالم وتتحكم به وتسعى إلى الهميمنة التامة عليه عبر احتلال جديد أو “استعمار جديد” يعتمد على الغزو الاقتصادي والثقافي وبعيدا نوعا ما عن الاحتلال العسكري القديم.
مما لا شك فيه أن قضية الصراع بين السلطة والشعب لا تقتصر على عالمنا العربي فحسب، بل هي ظاهرة عالمية، لذلك من الممكن أن يستفيد من هذا (النقد السلطوي) المُقترح الكثير من النقاد والشعوب حول العالم.
يعد “تغول السلطة” قضية عربية بجدارة، ولها وبكل تأكيد طابع عالمي، هذا مثال أطرحه على النقاد العرب كمنهاج نقدي عربي يتبنى قضية إصلاح أو التحرر من السلطة الظالمة، منهاج نقدي جديد يقرأ ويدرس ويحلل السلطة وخطابها وأساليبها وأدواتها وعلاقتها برعيتها.
هذا والقضايا العربية كثيرة وتبنّي أحدها هو سير على ما منوال المناهج النقدية الثقافية. أعتقد أنه حان الأوان ليكون للنقاد العرب قضيتهم التي يتبنوها ليساهموا في خدمة مجتمعنا العربي بالكلمة، فخير الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر.