زياد رباعي
انهيار نظام الأسد في سوريا بهذه السرعة لم يكن وليد صدفة؛ بل تأخر كثيرا بفعل فاعلية الاستفادة من التحالفات مع روسيا وإيران وحزب اللّٰه عسكريا، وتجارة الكبتاغون اقتصاديا، ما أتاح للنظام البقاء في ظل شرعية فرضها العسكر لأكثر من نصف قرن، والقتل والتدمير والخوف، حتى اكتظت سجونه بمئات الالاف، ومثلها من الشهداء والمفقودين وملايين المشردين في اصقاع الدنيا. حكم الأسد الأب (حافظ) سوريا 30 عاما، تحت راية البعث والحركة التصحيحة بقبضة حديدية، وصنع أجهزة أمنية بمسميات متعددة لتحقق له السيطرة المطلقة، وتعد العدة لإفراد عائلة الأسد والطائفة العلوية بالحكم، فتخلص من الرفاق والحرس القديم بالقتل انتحارا وفرارا، ليورث جمهوريته الى الأبن بشار؛ الذي شاءت الأقدار بحسب رئيس مجلس الشعب أن يعدل الدستور (بند سن الرئيس) يوم وفاة حافظ الاسد ليعلن سورية جمهورية ملكية بمسمى
(سورية الأسد) لكنها للوريث بشار غير المؤهل للحكم سنا وإعدادا، الذي لم يسجل انجازا واحدا في تاريخ حكمه المستمر ل 24 عاما، بل على العكس؛ كسر مجاديف الادارة المدنية، وارهق العسكر وجوعهم، ورفع شأن اجهزة الأمن المخابراتية، للتحكم بالبلاد والعباد والاقتصاد،فيما استطاع الأسد الاب أن يبني جيشا ويصطنع حربا مع اسرائيل، ويصل بسورية الى اكتفاء ذاتي ودولة بلا مديونية، وبلا ديمقراطية، قمع الثورات ضد حكمه التي كان أخطرها ثورة حماة بالتحديد عام 1982 ليبدأ مسلسل قمع نال من أحرار سورية. إنحراف عقارب الساعة غير الإتجاهات والطموح، ما قاد الأسد الأب لخوض معارك خاسرة في لبنان بالتحديد، ولم تكن علاقاته جيدة مع الجوار، ولم تكن ممانعته مقنعة لأحد، فاسرائيل نالت من سوريا مرارا وتكرارا، ولم يحن لسوريا منذ نصف قرن الزمان والمكان المناسبين للرد على الصفعات الاسرائيلية. جعل الأسد (الأب والابن)الداخل السوري مرعوبا؛ فتشتت الرفاق، وهرب الملايين، واستعصت العودة للوطن والعائلة، فأصبحت المقرات والحواجز الأمنية أكثر من المدارس وإشارات المرور، والسجناء مجرد أرقام يصعب الوصول الى أماكن احتجازهم، أو معرفة مصيرهم؛ أحياء أم اموات، والتهم جاهزة للكل (ارهابي وضد النظام) وخاصة في ظل تنامي الرشوة لرجال الأمن والحدود والعصابات وحتى القضاة، ولا ينجز أي أمر الا بالدفع. الفرص الضائعة كان بإستطاعة الأسد الأب أن يعيد بناء سورية بعد أحداث جسام، لكنه ترك المشهد دمويا لسرايا الدفاع بقيادة الأخ رفعت الأسد، وباسناد من الخليفة المنتظر باسل (الذي لقي حتفه بحادث سير فيما بعد) والاكتفاء بالأجهزة القمعية لادارة الساحات الداخلية في النقابات والجامعات، وطلائع البعث وشبيبة الثورة، وافرغت الساحة السياسية لرجال البعث والأحزاب المناصرة، والاكتفاء بمشروع سورية الأسد والى الابد. فكانت الموالاة صناعة من طلائع رئيسية طائفية الى ساسة وعسكر، يسيرون تحت ظلال سيوف آل الأسد. لم يستفد الأسد الأب من فرصة النظرة للوراء وإعادة الحسابات، بل تمادى فاصبح الدستور
ومجلس الشعب وحتى الحكومات متطلبا شكليا؛ لأن القوانين والقرارات التنفيذية ومؤسسات الدولة تعمل وفق رؤية وأهداف القصر الجمهوري على مرتفع قاسيون والإملاءات الأمنية، ولم تعد هناك احلام للسوريين الا تطلعات بالخلاص من حكم ال الاسد وأجهزته المخابراتية بالتحديد، فالسلطة الأمنية هي من تملك البندقية، والبندقية مرعبة وكاتمة للصوت، فلا لوم لخائف يريد الحفاظ على حياة أطفاله وشرف نسائه، وشيء من الكرامة ورث الأسد بشار الحكم، وانصاع الى هيمنة جند أبيه، ولم يلتقط إشارات الناصحين بفتح الصفحات الجديدة مع الجميع؛ واصدر صكوك العفو ولم تنفذ، بل استمر في مسلسل حلقاته تصور في لبنان خاصة مع حزب الله، وطهران مع ملالي ايران وحشدهم الشعبي، وروسيا باتفاقيات المصالح على شواطىء المتوسط لهدف محدد؛ بقاء سورية الأسد الى الأبد ولو اقتطعت أجزاء من جغرافيا الوطن في الشمال والشرق والغرب اسوة بالجولان ؛ الذي يثير سقوطها بيد الاحتلال الاسرائيلي إشارات الاستفهام. اضح شايند ، كأييه يعناد الاستفهام. اضاع بشار الفرص كآبيه بعناد وقساواة، وهو يعي وحاشيته ان هناك حلقات تصور في تركيا واميركا واسرائيل، وتفاهمات نعقد منذ سنوات بين أطياف المعارضة ودول عربية وأجنبية ضاقت ذرعا بالأسد؛ وخاصة بعد موجات القمع لربيع سورية الذي إمتد لقرابة 14 عاما مغايرا للربيع العربي في تونس ومصر وليبيا تأخر الربيع السوري؛ لأن القمع كان أشد، وترسانة السلاح المعدة لإسرائيل أجرمت في المدن السورية، وإعادتها قرنا الى الوراء، لكن ما لبث وعسكر الأسد في ميادين درعا وحلب وحمص وحماة …الخ ان تساقطوا لولا الإسناد الايراني وحزب اللّٰه وروسيا، وتغيرت عقيدتهم من جند الوطن وحماته الى جند الأسد والموت دونه، فانقضت قوى المعارضة بمختلف مشاربها وطوائفها على اراض من الوطن الكل، فانعزلت اجزاء، ولم يستفد الأسد الأبن من الهدنة بعد الربيع، ولم يراع مصالح دولته وشعبه، بل أوجد كراهية مطلقة لحلفائه بين مواطني سورية عدا عن تعزيزه للطائفية ومملكة الأسد بالبراميل المتفجرة، لتدمر مدنا وتقتل وتشرد مئات الالاف، فزاد الكره السوري الشعبي بمختلف طوائفه للحشد الشعبي الإيراني ولحزب اللّٰه والعسكر الروسي؛ لأنهم كانوا أدوات بطش بيد الأسد، ووضعوا المصدات أمام عقارب الساعة لتؤخر ربيع دمشق وانهيار النظام، رغم الدعم الخارجي الاجنبي والعربي للمعارضة السورية ودعم الفارين من جيشه.واصبحت عقدة المؤامرة على سورية وصمودها، ومحور المقاومة والممناعة قوت يومي للنظام السوري لقمع الشعب، والتنكيل بالاحرار، فتنامت اجهزة القمع وفرقة ماهر الأسد على حساب الجيش الوطني بعناصره وتسليحه ومعيشته. لبنان والتقاط الأنفاس لا أحد يزاود على السوريين في فرحتهم لرحيل الأسد الا الشعب اللبناني؛ الذي هيمن الاسد الأب عليه لأكثر من ثلاثين عاما، بدأت تحت مسمى الردع العربي، فأوغلت مخابراته باللبنانيين اعتقالا وتصفية، فأضحت بيروت محمية سورية خاصة للمليشيا وتجار الحشيش لبنان يستطيع الأن التقاط أنفاسه وبدء خطواته الأولى في إعادة بناء دولة ذات سيادة بعيدة عن الهيمنة السورية، واعوان إيران خاصة بعد انكفاء حزب اللّٰه قسرا الى السياسية بعيدا عن السلاح.
لبنان التي يُغيب رئيسها عن المشهد ويبقى ا كرسيه خاليا لسنوات، قد ينجح منتصف الشهر القادم في اعادة هيبة الحكم للرئيس والوزارة ومجلس النواب، ليعلن ان لبنان له سيادة، والقرار والتعامل مع الخارج واعلان الحرب يكون للدولة، دون وصاية وهيمنة لأي حزب أو طائفة.
لبنان الجديد حلم إن تحقق يعيد بناء بيروت لصدارة فقدتها منذ نصف قرن وخاصة في الاعلام والثقافة والفن والحرية، بفعل الحرب الأهلية وحزب اللّٰه وسورية والخصومة
الطائفية. الجار المزعج اما الأردن فقد تنفس الصعداء، فكان الأسد غير مأمون، أو كما وصفه البعض الجار المزعج – رغم اعلان الوحدة الاردنية السورية لفترة محدودة- فحاولت سوريا
التحرش عسكريا بالاردن مرتين؛ الأولى عندما أدخلت دباباتها للشمال اثناء احداث ايلول عام 1970، ثم حشد الاسد قواته على الحدود عامر 1982، كما ارسل مجموعة لمحاولة اغتيال رئيس الوزراء مضر بدران والقضية التي أثارت الاردنيين الاستفزاز الدائم منذ بدء الثورة السورية عام 2011 من وضع مليشيا ايرانية في الجنوب السوري لقمع المعارضة، وارسال مُسيرات تجسس لايران في المنطقة الحدودية، وتهريب المخدرات لاغراق الاردن بها وارسالها الى الخليج العربي. عدا عن مئات الاردنيين والطلبة المختفين في سراديب الامن السوري والمخابرات الجوية خاصة (فرع فلسطين)، فلم يكن الاردني ليطمئن ان وطئت قدماه ارض سورية، بل يضع صوب عينيه المثل
” الداخل مفقود والخارج مولود”، فعشرات الأردنيين تاهوا ارقاما في الأقبية الامنية، حتى ان كبار المسؤولين في سورية تنكر وجودهم أصلا، رغم دفع عشرات الالاف من الدولارات لمعرفة إن كانوا أحياء أو امواتا.
الاردن وسورية يستطيعان بناء نموذجا للعلاقات العربية والجوار المتشابك؛ عائليا واقتصاديا (تجارة وصناعة وزراعة وسياحة اومائيا، وفق أسس وقواعد تستذكر التاريخ المشترك، والبؤرة الخصبة للتعاون، فالاردني كان يفطر في عمان، ويتغدى في الشام ويعود مساء محملا بما طاب من خيرات الشام، والسوري كان ينتظر خضار الاغوار والمستوردات المعيشية في عقود اشتد الكرب على المواطن لأسباب سياسية واقتصادية
وحصار جائر عربيا ..الكل ينتظر زيارة سورية التي تمنعت على الكثيرين، والكل تخلص من عبء الاسد السياسي والاقتصادي والاهم الكلف الأمنية
التي اجبرهم عليها تجار الكبتاغون ومصانع ماهر الاسد.فالمنافع العربية السورية متبادلة في جميع المجالات.
سورية المستقبل لم تعد سورية للأبد الى الأسد، أو لحزب وطائفة، ولم تعد ضمن أملاك الدولة العثمانية، أو الوصاية الفرنسية والرعاية الروسية والإيرانية، بل يجب أن تبحث عن دولة مدنية، ذات سيادة على كامل التراب الجغرافي المعترف به أمميا، ولكل مواطن حق في الحرية واختيار من يمثله في المجالس التشريعية، لا اقصاء لأحد ولا لحزب أو فصيل أو طائفة ولا رئيس الى الأبد بل دستور لا يخضع لاملاءات غربية أو رغبات اقصائية، وقوى فاعلة ممثلة للكيان الاجتماعي والفكري، تقود مُصالحة أهلية، ومحاكمة عادلة لكل تغول وأوغل بدماء الأبرياء، ومارس كل صنوف القتل والتنكيل والتهجير، لا انتقام ولا اتهام بالظن، أو بناء على مواقف من النظام السابق؛ لأن السلطة قاسية وبيدها مفاتيح الوظائف والمصالح والتصنيف القسري في الموالاة والمعارضة سورية تنجو من الفوضى؛ إن كتب الحكام الجدد القوانين بخطوط واضحة واهداف محددة،
وخطط قابلة للتنفيذ، فبناء المؤسسات العسكرية والامنية تحكمه عقيدة واحدة، وان الكل مسخر لحماية الوطن وتأمين الحياة الآمنة للمواطنين، والولاء الحزبي والطائفي محرم على العسكر،ولا سلاح الا بيد الجيش النظامي، ضمانا للاستقرار ، ومنعا للفوضى والاختفاء في حال الحروب والثورات، كما جرى مع قوات
(الاسد 2024 وصدام 2003)، وأن المؤسسات المدنية غايتها خدمة المواطن، وتأمين سبل العيش الكريم له دون تمييز، وان العدالة الاجتماعية عناوين رئيسية للحكومة الممثلة
للجميع ومؤسسات المجتمع المدني، والقوانين هي الحكم والحاكم، والقضاء هدفه العدالة
ونبراسه الحق. اليافطة العريضة لنجاح الحكام الجدد، لا نسمح بالتدخل الخارجي، نرحب بالتعاون والدعم من
الأصدقاء والاشقاء ودول الجوار دون وصاية ورعاية، التراب السوري محرم على الاعداء والفصائل المسلحة ورعاة الارهاب، ولا نوافذ مفتوحة للعصبيات والقوميات وتجار السياسة،
بل سورية موحدة لكل مواطنيها، مها اختلفت قومياتهم وأديانهم وافكارهم، وخيراتها من نفط وغاز وفوسفات ومعادن، ونتاج سهولها، وقواها البشرية المهنية لدرجة التميز قادرة على الإعمار، واعادة الق الحضارات التي تربعت على الخارطة السورية عبر الزمن. تاريخ سورية قاس، فالتحرر من الاستعمار لم يكن سهلا، والبديل بعد الاستقلال ثورات وانقلابات، وحكم الاسد قمع وتنكيل، فهل تتنفس الشام نسائم الحرية مع عبق الياسمين.