أحمد ذيبان
في وقت مضى خلال الستينات والسبعينات والثمانينات، وربما تسعينات القرن الماضي كانت القاعات تمتلء بالحشود ، وتتزاحم أقدام من يرغبون بشوق الاستماع الى محاضر أو أكثر، يشاركون في ندوة ثقافية أو سياسية ، ويزداد شغف هؤلاء اذا كان المحاضر له قيمة سياسية أو فكرية وثقافية كبيرة ، وكان بضمن ذلك جماعير غفيرة تحضر للاستماع الى أمسيات شعرية يشارك بها شعراء كبار .
وفي هذه الأيام ومن خلال مشاهداتي ومشاركتي الشخصية ، بحضور بعض الندوات والمحاضرات ، وحتى حفل توقيع بعض الكتب لمؤلفين بارزين ، يبدو المشهد مختلف بصورة لافتة ، اذ لم يعد الاهتمام بحضور هذه الفعاليات كما كان سابقا ، وجمهور أي فعالية منها يعد بعشرات الأشخاص في أحسن تقدير ، بل أن في بعضها لا يتجاوز الجمهور أصابع اليد الواحدة .
وثمة أسباب جوهرية لذلك ، فبالاضافة الى التكرار الممل وعدم وجود جديد ، لما يقال في هذه الفعاليات وعدم احساس الجمهور، بقيمة ثقافية وفكرية مضافة في حال الحضور، ورحيل رموز كبيرة جاذبة للجمهور، فضلا عن اضاعة وقت كبير في زحمة المرور ، ثمة مياه غزيرة جرت أسفل الجسور وحدثت تحولت كبيرة .
ومنذ بداية القرن الحادي والعشرين ، انتشرت في العالم ” ثورة الانترنت” وما أفرزته من منصات عديدة ، تسمى وسائل التواصل الاجتماعي وأهمها ” الفيسبوك ، وموقع واتساب ، ويوتيوب، وانستغرام، وماسنجر، و”زوم ” و ” وي شات” ، و”تيك توك” ومنصة “اكس”، التي كانت تسمى تويتر سابقا .
ومن خلال هذه المنصات أصبح الكثيرون يتفاعلون عن بعد مع المحاضرات والندوات ، والحلقات النقاشية التي تنظمها القنوات الفضائية ، أو عبر اليوتيوب ، بل أن بعض الضيوف يشاركون في هذه البرامج والندوات ، عبر مسافات بعيدة من مختلف القارات ، وحتى بعض المؤتمرات السياسية أصبحت تعقد عن بعد .
. ومن المفارقات الطريفة واللافتة ، أن بعض الجاهات التي تذهب لخطبة عروس ، أو من يحضرون حفل زفاف يزيد عددهم بكثير ويقدر بمئات المدعويين ،فيما رواد الندوات والمحاضرات الثقافية والفكرية يعدون بالعشرات ، وذلك يطرح سؤالا مهما : هل يعتبر ذلك عزوف عن الثقافة ؟ أم لأن هذه المناسبات تقدم خلالها أطباق الحلوى “الكنافة” !
لا شك أن هذه الظاهرة تعكس في أحد جوانبها ، ما أصبح يوصف ب”عصر التفاهة” ! ، وتبدو أحد تجلياته واضحة فيما يسمون ب”المؤثرين” عبر وسائل التواصل الاجتماعي ، ذلك أن بعض هؤلاء يتابعهم عبر صفحاتهم على الفيسبوك أو منصة “اكس” وغيرها من المنصات ، عشرات الالاف وبعضهم ملايين الأشخاص ، ليس لأنهم يجترحون المعجزات وابداعات خارقة ، بل لكونهم يقدمون وجبات دسمة من التفاهة !
وما يثير الدهشة والاستغراب على سبيل المثال، أن سيدة أو فتاة تكتب عبر حسابها جملة سخيفة ، كأن تقول أن “لوني المفضل هو الأزرق “، وتضع صورة لها وهي ترتدي فستان أزرق اللون ، فتلاحظ أن ما نشرته يحظى باهتمام منقطع النظير ، من خلال عشرات الاف الليكات والاف التعليقات التي تمدحها !
لست أعني في هذه المقالة نعي الثقافة والفكر ، فهناك أعداد غير قليلة لا تزال تهتم في هذا الشأن ، والكتب لا تزال تجد من يقرأها ، وثمة مؤسسات عديدة تعني بذلك وتشجع على القراءة والثقافة ، لكن المشكلة أنه اختلط حابل الثقافة والفكر بعالم السياسية ، وكما هو معروف فان العمل السياسي مرتبط بمحاولات السياسيين تسويق الكذب ! سواء تجلى ذلك خلال الحملات الدعائية في الانتخابات البرلمانية والرئاسية ، حتى في الدول الديمقراطية يكذب المرشحون على الناخبين ، ذلك أن السياسة والكذب وجهان لعملة واحدة !
من الصعب اعادة عقارب الساعة الى الوراء ، فما أفرزته ثورة الانترنت والان “الذكاء الاصطناعي” ، أصبح جزءا من حياتنا اليومية ، ولا يمكن تجاهل ما نتج عن ذلك من معلومات ومعارف وسلوكيات وتداعيات .