سليم النجار
وليد الهودلي تسعون يوماً من المواجهة الملتهبة في زنازين بني صهيون
اصدار المؤسسة الفلسطينية للارشاد القومي – ٢٠٠٣
( راية الموت)
صهرت نفسَه الآلام، فخلق من مرارة المعتقل الإسرائيلي الجمال، وقدّم الأسير المحرر وليد الهودلي، رواية فلسطينية مميزة للرواية العربية، حالة روائية توحي ولا تقرّر، تفجر الوعي واللاوعي معا.
البحث عن “ستائر العتمة” يشبه البحث عن جوهرة في غابة وسط ليل السؤال والضياع، ترى بريق الجوهرة وظلال شجرتها، لكنّك لا تقبض عليها كلّها، لأنها في غيابها هي حاضرة، ولأنّ في حضورها شيئا دائم الغياب.
ولاشك أنّ لهذه الجوهرة وقعاً مميزاً، له من القديم نسغ الجذور ومن الجديد نغمات الرمز الساخر، وهل يستطيع ناقد أن يتجاهل غنى الحالة الروائية الفلسطينية التي تُكتب في زنازنين الإسرائيلي؟ والتي فجّرها وليد الهودلي وهو يتلاعب بأسنان اللغة وينقّبها من سوس التقليد ويحقنها بالمدى الغريب، العجيب المؤثّر، العميق والمدهش.
فمظهر المعتقل الفلسطيني كفارس من فرسان الحركة، سريع الانتقال من الايقاعات البليدة إلى الموسيقى التي تبعث إلى الانتشاء، (ويا لها من لحظات عظيمة يتربع فيها صوت الرصاص على رؤوس الظالمين ص٨).
يَرْكب الكاتب وليد الهودلي اللغة كما يركب الخيل، ويلاحقها كأنه يلعب كرة المضرب، ويقف في هيكلها متأملاً شأنه، لحظة كأنه يلعب الشطرنج،( خطوات على اليمين، ثم اليسار، ثم الدخول في إحدى غرف التحقيق ٠٠ رفٌع عن عينيه السواد القاتم، حملق حوله، حتى إذا اتضحت الصورة، وجد المحقق يبتسم له ابتسامة صفراء، اجاد نشرها على وجه الأرعن ص٣٥-٣٦).
يٌصور الروائي وليد الهودلي المعتقل الفلسطيني مُمتلئ بالحياة في سياق دائم مع أمور عدّة: الثورة والحب، الموت والحياة، الدنيا والآخرة، اللذة المكتئبة والحلم الجارح،( عاد عامر إلى أعماق نفسه بعد هذا الحوار الساخن ٠٠ سبحانك ربي ما أرحمك ٠٠ على المرء أن يكون حذراً من كل مخلوق يقابله في هذه الزنازين فعلا:” الثقة لا تلغي الحذر” ص١٢٥).
جسد وليد الهودلي في روايته” سائر العتمة” ذاته جامعاً من التناقضات الغنية ومن الأحلام الدافقة الدائمة الخصوبة، لم يعش لكلامٍ موزون مقفّى، بل عاش رواية المعتقل الإسرائيلي، ولم يعش لحياة عاديّة، بل عاش للآتي المستحيل،( مهما كانت قبيحة ٠٠ ولكن إلى متى سيبقى هذا البنيان صامداً ٠٠ أنا متأكد، حسب خبراتي في الدوافع الإنسانية، في علم النفس، أن انهيار أمثال هذا الرجل صعب للغاية ص٧١- ٧٢).
واللافت أن هذه الجوهرة- ” الذات الفلسطينية” الدائمة الحضور كانت تحلم دائماً بالغياب الراعب٠ ذَوَّب قلبَها هاجسُ الموت، الهاجس الحقّ الذي عرف أن كل قطع الزمان الأخرى أوهام تفككها الأيام فتتلاشى وتنحلّ،(في اليوم الثمانين لاعتقال عامر، سحبوه من زنزانته العتيدة ٠٠ وضعوا على عينيه نظارتهم السوداء، وانطلق معهم دون أن يودع من رافقته هذه الأيام العصبية٠٠ سار في سرادبيهم قليلاً، ثم وجد نفسه تحت نفخات الهواء الطلق ص١٢٩).
هنا روائي يوحي ولايُسهب، يكتب حرّا ولايسف، يفكر بحيوية وله سفر في حقول المجاز،( وغرق في صمته طويلاً٠٠ استلقى على ظهره ٠٠ شبك أصابع يديه خلف رأسه ٠٠ ركّز على نقطة معينة في السقف ٠٠ ساعة؟ ساعتين ثلاثةص١٧- ١٨).
رواية ” ستائر العتمة” يتعشّقها الحالمون والرواة، فتلذّ لهم رموزها ويجذبهم وضوح ما يغلّفها من إبهام، فما يبدو مغلقاً أمام الأعين العادية يبدو مفتوحاً على آفاق التحرر والانعتاق من هذه الظلمة الإسرائيلية من قِبل الكاتب وليد الهودلي، الذي كتب روايته، رواية الحياة الأنسانية التي يجب أن يحيا فيها الفلسطيني دون أن يرفع راية الموت٠