حمد محمد أبوحمدية
لم أبدأ بالكتابة عن مسيرة أبوحمدية إلا بما ذكره الحلاج “عابدك اجتمعوا لقتلي تعصبا لدينك وتقرّبا إليك، فاغفر لهم، فإنك لو كشفت لهم، ما كشفت لي، لما فعلوا ما فعلوا، ولو سترت عني ما سترت عنهم، لما لقيت ما لقيت”، أما التمهيد فقد إنطلق من الفقرة التالية: (ما وقع في ذلك اليوم كان مذهلا بجميع المقاييس، فكيف لدولة تتدعي أنها واحة الديمقراطية كأسرائيل أن تقبل تضمين القتل كحرية للضمير وتحجير الإغتيال في دستورها؟ هل كان التأسيسيون في الحركة الصهيونية يسعون إلى إغتيال لكل من يدافع عن وطنه جريمة يعاقب عليه قانونهم وعلى وعي بالبدعة التي ابتدعوها؟
وبعد هذه الأسئلة يروي محامي الأسير الشهيد ميسرة أبو حمدية،(السجين حضر في وضع صحي صعب جدا حيث بدا الوهن والإرهاق الشديدين عليه ضعيف جسمانيا وجسديا لا يقوى على السير إلا بمساعدة أسرى آخرين لا يقوى على رفع رجليه ويوجد بحة في صوته ومنخفض جدا حيث كان برفقته الأسير أمجد كبها ينقل ما يقوله الأسير ميسرة بسبب عدم وضوح الصوت ص٩).
ويكتسب نص شهادة ميسرة أبوحمدية، هذا قيمته من وجوه عدة أظهرها فائدته وأهميته فيما نحن بسبيله، وهو أيضا ينبّهنا إلى ضروة أن نسأل من جديد ما يتعلق بالبديهي والمطروح ونستفهم ما لا يفهم حول “حرية القتل” و”شرعيته” ونستوضح ما لا يتوضح حول ” الهوى” في القتل للفلسطيني كإنجاز حضاري، ولينأى هذا السؤال عن مقامه ما شاء، فقصدنا هو تجذير الدلالة السائدة للفظة هوية القتل بإخراجها عن مستوى اللغة العربية الحديثة، حيث تشير إلى “نحن” أنثربولوجية وثقافية، إلى مستوى اللغة الفلسفية حيث يجدر بها أن تدّل على معنى هوية القاتل التي تشي أنها قادمة من ثقافة إستعمارية، إدعت أنها جاءت لخير البشرية، وإذا كان ذلك، فهل جسد الفلسطيني قربان هذه الحضارة؟ لنقرأ بعض ما كتبه نجيب فراج عن هذه الحضارة، (لم يشفع العمر الستيني ولا الحالة الصحية المقلقة للأسير الفلسطيني ميسرة أبوحمدية ٦٢ عاما من سكان مدينة الخليل القابع في سجن رامون الإسرائيلي لسلطات الإحتلال من إعتقاله والحكم عليه حكماً قاسيا ومشدداً مدى الحياة ص١٦).
يبدو أن ذلك لا يصبح ممكنا إلا متى استطعنا أن نجيب عن هذا السؤال التحضيري: ما هو مغزى أن يلجأ السجّان إلى ممارسة ثقافة القتل بعبارة حضارة؟ كيف يقبل العالم المتحضر هذا الأنزياح من محتوى “هو” ضمير الغائب إلى مستوى “أن شيئا ما موجود” أو مستوى “الشيء الموجود” وهو ما لا يعرفه العالم في لغتهم منذ نكبة فلسطين عام ١٩٤٨؟ ويصف الكاتب حسين حجازي عن هذا المشهد غير الإنساني، (هكذا سيكتب فردريك انجلز رفيق ماركس نبؤته في مستهل تحول الرأسمالية إلى عصر الاستعمار قرب نهاية القرن التاسع عشر، حيث أبدى انجلز إعجابه بالثورة المهدية في السودان ضد حكومة بلاده الاستعمارية بريطانيا هذه التي أخرجت فيما بعد جثة المهدي وجمجمة رأسه من القبر ونكلت بها ص٢١).
إن الشهيد ميسرة أبوحمدية وهو يصنع الكون السرديّ ويشكَّل خطابه القصصي النضالي يصهر هذه المتناصّات في محرق نصّه الواحد وتغدو مقوِّمات بنائيةً ودلالية داخله، أي داخل النتاج التخييليّ الذي لا يجري إلاّ في ذهن متخليه وفي عالم السجن والذي يعصف بالمرجعيّ عصفا. وما رصد من كلمات كُتبت عن هذه المشهدية المأساوية ما جاء بقلم دعاء أبو
جزر، (لربما حديثي هو شيء من الكابوس جميعنا يخشى من أن يبقى وضع أسرانا هكذا خاصة وأن المنظمات الحقوقية والدولية والحكومة الفلسطينية لم تقف أمام واجباتها اتجاه الاسرى وقضاياهم المصيرية ولربما من مقالي هذا أدعوهم بأن يشتروا مُلصقاً ويضعونه على افواهم فما عادت أصواتهم تُغني ولا تُسمن شيئا فالصوت الأقوى خو خلف القضبان يشهد على شهادة رفيقه ونخشى نحن فقد الشاهد كما رحل مسيرة وجرادات قبل أن يأخذ حقه من قوى الظلم والطغيان ث٢٦).
إنّ صانع هذا السديم لا يترك حدثا فاصلا من التاريخ القديم أو المعاصر إلاّ سجّله أو فضحه منذ الجازية الهلالية وأسد بن الفرات والحكم العثماني وصولا إلى الربيع العربي ووصولا إلى مجازر الهرسك في البوسنة إلى الأحداث الإرهابية في تونس وسوريا وليبيا ٠٠٠ وعند فلسطين يُصبح الصمت بحق ما يرتكب بالأسرى الفلسطنيين نوع من أنواع الفضيلة، ولنقرأ ما قاله أحمد أبوحمدية إبن أخ الشهيد ميسرة ابو حمدية ل “راية أف إم”، (بأن الشهيد ميسرة لم يكن يعاني من أي مرض قبل اعتقاله، وأصيب بمرض السرطان الحنجرة قبل ثمانية أشهر ولم يتلقى العلاج المطلوب سوى المسكنات، وأضاف بأنه لم يكن يسمح لاحد من أفراد عائلته بزيارته سوى من الأقارب من الدرجة الأولى، ولم يسمح لهم خلال الفترة الأخيرة بزيارته بحجة الاعياد اليهودية ص٢٩).
ومن سخرية القدر / سخرية الاختراق، لِنتأنَ قليلا عند السَخرية، تحديدا المؤذنة عادة بالتّحولات الكبرى، إذ تكون السّخرية في حقيقة الأمر في معترك تلك التّحولات متبادَلة بين قيم نضالية وقيم لا تعرف إلا القتل والتنكيل، وخلال هذا التّدافع تسعى الأولى دفاعا عن كيانها إلى مقاومة مقاومة الأنزياحيّ الأستفزازيّ، في حين تسعى الثّانية إلى فرض جرائمها كقيم جمالية جديدة عاصفة بالقيم النضالية.