ابراهيم السواعير
كحّلتُ عيني اليوم، وقبل أن يهرع الناس إلى وظائفهم وأعمالهم وشؤونهم، بل وقبل أن أتناول فطوري، بما كتبه معالي الصديق الدكتور عادل الطويسي؛ وهو يبثّنا حنينه وأشواقه لقرية “جي” جوار البترا، عارضاً صورةً قديمةً لهذه القرية ومستذكراً شخوصها وناسها، متأملاً فضاءاتها وحجارتها ودُورها قبل ترميمها من واقع الصورة التي تعود بنا إلى بدايات القرن الماضي.
وعلى صوت ربابةٍ خفيفةٍ أدّخرها حين أعيش الظرف النفسيّ الحزين والفَرِحَ في آن، استبطنتُ في النصّ البصريّ الرائع عشرات الحكايات ولاحت بوجهي الذكريات ومصائر الناس والأيّام، حيث حنين الدكتور الطويسي ونفسه الشغوفة بالماضي؛ فالكبار لا يتنكّرون للمكان وأهله!
ولأنّ الحياة لا تستقيم من غير رومانسيّة؛ أدركُ كم هو قدوة، الدكتور عادل الطويسي، على علمه وخبرته الكبيرة في الحياة ومعرفته بكلّ صنوف البشر، حين يضع كلّ ذلك جانباً ويشتاق لتلك الطقوس الجميلة، معدداً بالاسم كلّ دارٍ من دور القرية الواقعة مقابل بيته والتي ظلّ يلقي عليها السلام في طفولته وبواكير شبابه وحتى في غربته وفي خضمّ انشغاله بالوزارات والجامعات رئيساً وأكاديميّاً وصاحب خُلُق كريم كانت تفاصيل القرية لا تفارقه؛ فهي ليست مجرّد حجارة وغرف وإنّما يوميّات لو أراد أن يترك لأسلة قلمه أن تجيش بالذكريات فإنّ كُتباً شفيفةً ستصدر عن عادل الطويسي، مع حفظ ألقابه كافّة؛ إذ تظلّ وادي موسى تسكن هذا الرجل الذي تربّى على طيبة الناس وقَبَس من مقابس الكرم والصدق والوفاء من عيون آبائه وأجداده الكثير الكثير، فكان نسخةً عنهم، يحملهم في وجدانه وعقله وفي تعامله في وسط أوسع وحياة أشمل وتفاصيل معقّدة جداً في عالم المدينة والجامعة والوزارة وفي الأمانة التشريعيّة التي كان فيها صادقاً مع ذاته وضميره؛ وما زلتُ أذكر عام ألفين وخمسة يوم جاء لوزارة الثقافة كالسيل العَرِم وهو يضخُّ فيها كلّ دماء الحياة والبرامج والمشاريع بعد أن ذوت هذه الوزارة وفقد الناس الأمل والرجاء في ظلّ أجواء أقلّ ما توصف بأنّها مُتضببة في الرؤية وفيها أحزان شديدة على أكثر من صعيد.
صورة القريّة الوادعة تلك، تبهرنا فيها ذاكرة الدكتور عادل الطويسي في رسم تفاصيل المشهد وجهاته، وجيرانه بين الأمس واليوم: “أعرف تقريباً لمن كلّ دارٍ من دورها الظاهرة في الصّورة. ثاني غرفة على اليمين غرفة المرحوم الحاج عودة عيسى الهلالات. أوّل غرفة على اليسار غرفة المرحوم الحاج هارون الجلاد، وبعدها غرفة المرحوم الحاج هارون بن حسن الهلالات. الغرفة المقابلة في أقصى الصّورة كانت لمبيت الحلال”!
وبعدُ،
أيّتها الحروف الساكنات العقيمات على الألسنة آن أن تتفجّري مع كلّ دفقة حزن وذكرى شفيفة،.. أيّها البوح الذي كَتَمَتْه صخرةٌ ثقيلة؛.. يا هذه الأوابد الشاهدة على الأنفاس الصادقة والرجال الطيّبين، ليس بين وادي موسى وناعور مسافة، وإنْ تَغرّبنا في الديار وتنكّرت لنا الرؤى والأفكار، فلُذنا بِقُرانا وموارس القمح وشلايا الغنم ووجوه الأحبّة ممن قضوا، في ارتباطنا الحميم بالمكان؛ فما بين البلدين كانت ثمّة صرخة قديمة بحتُ بها في فضاءٍ غير فسيح يوم ثقلت الأصفاد على الألسنة، ولاذ كلٌّ بقصيدته على صياح الديك: “صرارُ أرضكِ يدري كم تعبتُ وذي..موارس القمح كم أشبعتها وجعا”.
الدكتور عادل الطويسي.. الكبارُ لا يتنكّرون للمكان وأهله!