راتب عبابنة
من يحاولوا إياهمنا بتحسين التعليم باستجلاب ما يروق لهم من أنظمة تعليمية تكاد تكون مثالية من دول متقدمة بكافة المجالات، لن تنجح محاولاتهم لأن ما يتبنوه جزء مستقطع من منظومة التربية والرعاية والمناخ التعليمي الذي يحظى به المتعلم منذ البداية في البيت والحي وصولا إلى المدرسة التي تنسجم يومياتها ومناهجها مع السنوات التي تسبق حياة الطفل قبل وصوله مرحلة دخول المدرسة.
والطفل في الدول التي ننظر لها بعين التقدير وأنها الملهم لنا ونسارع باستيراد تجربتهم لفرضها وحشرها بنظامنا التعليمي، ترافقه رعاية الدولة والإهتمام به منذ ولادته ويسير ضمن برنامج معد بعناية فائقة بحيث كل مرحلة من مسيرة حياته تعده وتأهله للمرحلة القادمة. ويكون الطفل أو الطالب يعي تماما ما عليه إنجازه للوصول للمرحلة التالية واجتيازها.
يبهرهم ويخطف أبصارهم عندما يزور من هم يبدون اهتمامهم بالتعليم مدرسة بدولة ما ويحاولوا إدخال ما شاهدوه وتطبيقه على هذه المدرسة أو تلك دون الغوص بالمراحل التي مر بها الطالب حتى أصبح منتميا ومحبا للبيئة التعليمية يحترمها ويشتاق إليها ليبدع وينجز ويصبح عنصرا فاعلا بالمدرسة والحي والبيت ومن ثم ينطلق لخدمة المجتمع الواسع وهو لا يختزن بذهنيته ونهجه إلا كيف سيعكس ما تلقاه من رعاية واهتمام من قبل الدولة للدولة والوطن.
وهذا النمط من التربية الذي لا ينفصل عن التعليم بكافة المراحل من الروضة وحتى الثانوية هو ما يفتقر له نظامنا التعليمي المدرسي. الوزارة التي تعنى بالتعليم المدرسي اسمها وزارة التربية والتعليم. فالتربية تسبق التعليم، لكن عند التطبيق نجد أنها وزارة تعليم ولا شأن لها بالتربية، بل عرض وتلقين الطالب مناهج لا تغرس به القيم الأصيلة ولا تنمي مهاراته والطالب يشعر أن عليه عبئا ثقيلا لا يتوافق مع واقعه وليس منسجما مع مراحل مر بها. وفي الحقيقة، يشعر بأن ما بين يديه قد أسقط إسقاطا منفصلا عن السابق واللاحق.
أما أن نأتي بنتائج ما توصل إليه الآخرون ونحشره حشرا ويدخل به التمثيل بنسبة 90% ونعرضه على التلفزيون وندعي النجاح بالتجربة، فهذا النمط التظاهري والمسرحي لن يفيد التعليم والمتعلمين. فالأجدر بجالبي النتائج، أن يجلبوا التجربة كاملة من ألفها إلى يائها وتدرس من قبل خبراء التربية والتعليم لوضع المعوقات وإمكانية التغلب عليها ومن ثم تجرب بشكل محدود بعد تهيئة كافة الظروف والإحتياجات التي توفرت للطالب بالبلد المصدر للتجربة. وإن أتت بنتائج إيجابية تعمم على محافظة ما وهكذا بالتزامن مع التطوير والتحسين من ناحية تأهيل المعلمين علميا وعمليا وتحفيزهم برواتب تدفع بهم للإخلاص والتفاني لصناعة طلاب سيكونوا قادة المجتمع يوما ما.
المدرسة في مجتمعنا منقطعة عن الأسرة والمناهج لم تعد تلزم الطالب بالنظر إليها لافتقارها وبشكل متعمد من أي إلزام للطالب للتفاعل معها بالبيت. قالوا أن التعليم ناجح في تلك الدول لأن الطالب بعد مغادرته المدرسة يعيش حياته كما يحلو له، لكنهم لم يطبقوا الجانب المنتج من التجربة، إذ الطالب يقوم بواجباته التطبيقية قبل مغادرته المدرسة وهو الجانب غير المطبق بمدارسنا.
وبنظرة على عدد عشوائي من دفاتر الطلاب ستصدم عندما تجد وبنهاية الفصل الدراسي أن ما كتب بها لا يتعدى 10% من حجم استيعابها. وهذا يدل على أن الإشراف على الطالب شبه معدوم ولا يعطى وقتا للتطبيق. وأعزي السبب لعدم اكتراث المعلم الذي يشعر بأنه لا يستوفي حقه وهو الشيء الذي انعكس على الطالب.
لذلك لن يفيدنا ما يتم تبنيه من الآخرين إذا لم تؤخذ التجربة برمتها وتهيئة البيئة المثلى لتطبيقها تدريجيا ومن ثم تعميمها تدريجيا أيضا حتى نتأكد من نجاحها بنسبة عالية.
يسير الطالب بتلك الدول ذات التجارب المنتجة ضمن سلسلة برامج وضعت بعناية تتسم بالتكامل ويشرف عليها ويقيمها ويصححها خبراء مشهود لهم وهي برامج تراعي البيئة الإجتماعية وقدرات الطالب وميوله ومهاراته وتستوعب مستوى التحصيل بحيث تتسع هذه البرامج للقدرات المختلفة للطلاب بحيث يصبح بإمكان الطالب التوجه نحو المجال الذي يرى به تفجير طاقاته وممارسة مهاراته.
ومن الواضح أن البهرجة والتوليف الإعلامي الذي يرافق عملية الإظهار والإشهار هو بالواقع إظهار لمن استورد التجربة أكثر منه لإعلام الناس بقصة نجاح. وتجارب النجاح لا تجزأ ولا تجتزأ بل تؤخذ وتدرس لبيان مدى ملاءمتها ومدى إمكانية تطبيقها ومن ثم تجرب بحذر وعلى نطاق محدود. وكيف نستقدم تجربة مثالية ولا نوفر لها الظروف والأدوات والبيئة التي أوصلتها للمثالية؟؟!!
إذا كان القصد إعلاميا للتلميع وإثبات “نحن هنا قائمون” وبعيدا عن الهدف السامي للتجربة، فنحن نسير باتجاه الظلام وليس التنوير.