عثمان محمد الأخرس
الـدرامـا في المسـرح الإغـريقــي
( ما بين التراجيديا والكوميديا )
يعتبر فن المسرح أول الفنون التي ظهرت في عصر ما قبل التاريخ في اليونان القديم ، وهو من الفنون التعبيرية التي عبرت عن الإنسان وقضايا المجتمع ، وقد تم ربط المسرح الإغريقي قديماً ربطاً مباشراً منذ نشأته الأولى في القرن السادس قبل الميلاد بالقضايا الدينية فقط ، لأن ميلاد المسرح قديماً كان في المعبد ، والدارس للحضارات القديمة يعرف تماماً أن اليونان والهند ومصر القديمة كانت أكثر الشعوب اهتماماً بالطقوس الدينية ، وكانت هذه الطقوس لا تخلو من الأناشيد والترانيم الدينية التي كان يصاحبها رقص شعبي أيضاً ابتهالاً للآلهة واحتفالاً بها.
ولما كانت الحضارات الأولى دياناتها وثنية ومتعددة الآلهة والمسؤول عنها الكهنة ، فلا بد أن يستعين الكهان بأشخاص يجيدون التمثيل والحركة لتقديم الحكايات المعبرة عما جاء في تعاليمهم الدينية المليئة بالأسرار والأساطير، لأنها هي الوحيدة التي سيكون لها تأثير في نفوس عامة الشعب ، والهدف من ذلك هو حرص الكهنة على فرض سلطاتهم الدينية على الشعب .
والذين يهتمون بشؤون فن المسرح من كتاب ونقاد وجمهور في العالم ما زالوا يستقون معلوماتهم وثقافتهم من المسرح الإغريقي القديم الذي نشأ على أساس ما يسمى( بالميثولوجيا الإغريقية ) التي كانت تستند على الأساطير والخرافات التي آمن بها اليونانيون القدماء ، ولكن هذا الفن تطور مع ظهور مفكرين وفلاسفة استطاعوا أن ينقلوا المسرح اليوناني من أساطير الآلهة إلى أنصاف الآلهة وهم الأبطال ، واستمر هذا التطور مع تطور حياة الإنسان الثقافية والاجتماعية والسياسية . إلى أن وصل الفن المسرحي في ذلك الوقت إلى تقسيماته الدرامية المعروفة وهي ( التراجيديا والكوميديا ) .
وكان كتاب التراجيديا ( المأساة ) يستقون الموضوعات والشخصيات من حياة الآلهة ، أما كتاب الكوميديا (الملهاة ) فكانوا يستقون الموضوعات من الأماكن العامة والأسواق . وقد اعتمد المسرح البدائي الإغريقي في ذلك الوقت على علاقته الوثيقة بعبادة الإله ( ديونيسيوس ) . وكانت المسرحية لا تعرض إلا في أعياد هذا الإله كطقس من طقوس عبادته. وقد لعبت هذه الديانة دوراً كبيراً في تكوين ونشأة الدراما الإغريقية بشقيها التراجيدي والكوميدي ، فالغاية من النمطين هي واحدة إلى حد ما كما وصفها النقاد ، فالإغريق قديماً لم يميزوا في الأهمية بين شخوص الكوميديا وشخوص التراجيديا ، فكلاهما يحقق المتعة والفائدة .
في القرن الخامس قبل الميلاد ، قدم المسرح الإغريقي الاستعراضات الغنائية والتي كانت تقدم في أعياد الآلهة ، وكانت تلقب (بالديثرامبوس) ، وهو نوع من الرقصات الغنائية تقوم بها الجوقة بمصاحبة الناي ، وكان الجوقة يرتدون على المسرح جلود العنز ( تراجوس ) . من هنا اصبح يطلق على أفراد الجوقة اسم ( تراجودوى ) وأطلق على الأغنية نفسها اسم العنزية ، أي ( تراجوديا ) وهي الأصل في كلمة ( تراجيديا ) .
وقد تطورت التراجيديا في القرن السادس قبل الميلاد على يد الكاتب والممثل الإغريقي ( تيسبيس ) ، وأخذت شكلا خاصا ، فقد كان يتجول هو وأتباعه من هواة التمثيل في الشوارع والأحياء الشعبية ويقومون بالتمثيل والغناء ، وكان يقدم أشعاراً وقصصاً مقتبسة من الأساطير ، وهو أول من استخدم شخصية الراوي ووظفها بالدور في الحدث الدرامي من خلال الحوار مع الكورس ، وبالتالي هو الذي أوجد فكرة التمثيل بعد أن كانت الأحداث تروى على لسان رئيس الجوقة فقط ، لذلك يعتبر تيسبيس هو خالق الفن المسرحي في العالم الإغريقي .
أما الكوميديا الإغريقية وأصل نشأتها ، فهي محاطة بالغموض أكثر من التراجيديا . ولكن كان يندرج مفهومها قديماً بالصيغة التي تفسر الضحك ، وهو أسلوب كان ينبثق من أفعال المهرج الذي كان يقلد الأشياء بطريقة هزلية وعشوائية ، وكان يقصد بذلك التسلية والمرح فقط ، وهذا ما أثبتته الشواهد الأدبية في اليونان القديم ، بأن الكوميديا ظهرت لأول مرة في الحفلات والمهرجانات التي كانت تنطلق من أعياد الإله ديونيسيوس . وقد عرفت باسم ( كوموس ) ، وفي هذه الاحتفالات كانت تأتي مجموعة من الأشخاص يمارسون حالة التخفي ويرتدون ملابس وأقنعة ساخرة تشبه الطيور والحيوانات من أجل إضحاك الناس .
وبالرغم من أنها فكرة هزلية وعبثية ، ولا تليق بالمفهوم العام للكوميديا ، إلا أنها كانت تلقى قبولاً واستحساناً لدى الجمهور المتواجد في الاحتفالات الدينية ، وكان من الطبيعي أن يظهر فنان ما يحدد هذه الفكرة الساخرة ، ويجعلها مستساغة أكثر من خلال طرحها في موضوع درامي لعرضها على المسرح ، وقد قام الكاتب الإغريقي المعروف (خيونيديس ) بتطوير مفهوم الكوميديا نحو الأفضل ، إلى أن وصلت في طابعها الأدبي المعروف وهو ( الفكاهة الدرامية ) ، ويقول عنه النقاد انه كان رائد الكوميديا القديمة ولا يعرفون عنه إلا ثلاث مسرحيات… الأبطال ، الشحاذون ، الفرس .
ومع ذلك فأن هاذين النهجين من التجربة الإبداعية في الدراما الإغريقية ، سواءاً كانت الكوميديا منها أو التراجيديا ، فأننا لم نصل إلى جدية وتطور هذه الدراما بشكلها الصحيح الذي نعرفه الآن ، إلا من خلال العصر الذهبي لليونان القديم ، والذي انتعشت فيه الدراما اليونانية القديمة ، وقد تمثلت هذه المرحلة بحكم ( بركليس ) في أثينا القديمة ، وبركليس هو حاكم أثينا في عصرها الذهبي ، وقد كان لزوجته اهتمامٌ في الأدب مما جعلها تفتح أبواب بيتها ليكون منتدىً لجميع العلماء والحكماء والفلاسفة في ذلك العصر. ولا شك في أن هناك علاقةً وثيقة الصلة بين ما حققته هذه السيدة من دعم للفكر والأدب ، وظهور أعظم الأدباء في ذلك العصر . أمثال سوفوكليس ، أسخيلوس ، يوربيدس ، أريستوفانيس .
وبالرغم من أن المجتمع اليوناني في عصر بركليس كان منقسماً إلى طبقتين ، هما طبقة النبلاء ، والطبقة العامة من الشعب والأكثرية منهم من الفقراء ، والعمال ، والفلاحين أو من الرقيق ، إلا أن كتاب المسرح والشعراء في ذلك العصر الذهبي كان لهم شأن وقيمة كبيرة في أوساط المجتمع اليوناني ، وكانوا من علية القوم على اعتبار أنهم من الحكماء والفلاسفة الذين يكتبون الدراما ، بل كانوا يتولون إخراج المسرحيات وأحيانا يشتركون بالتمثيل فيها ، ويلقون من أجل ذلك ألوانا من التكريم والتبجيل والجوائز على ما صنعوه من أجل تطوير الدراما الإغريقية .
فهؤلاء العباقرة هم من نظروا إلى فن الدراما والتمثيل بعين المهابة والتقديس ، وخدموا المسرح الإغريقي بهذا الأدب الرائع الذي قدموه للبشرية . وأمدونا من خلال هذه الروايات بأفكار فلسفية تميزت بالدقة بين النمطين الكوميدي والتراجيدي، والذي صنف فيما بعد ( بالأصول الكلاسيكية اليونانية القديمة ) ، وإذا أخذنا بشيء من التفصيل ، فالدراما الإغريقية التي استمدت موضوعاتها من الأساطير والخرافات والطقوس الدينية المتمثلة بعبادة الآلهة ، لم تأت بالصدفة ، بل هي موضوعات موروثة قبل ظهور المسرح الإغريقي بقرون عديدة ، وقد ابتدأ هذا الإبداع عند ظهور الشعر الملحمي الذي كتبه الشاعر الإغريقي هوميروس ( 928 ــ 898 ) قبل الميلاد ، وهو من كتب الملحمتين الإلياذة والأوديسة .
وقد قيل عن أسخيلوس أن كل ما كتبه من مسرحيات ما هو إلا فتات مائدة هوميروس ، والحقيقة أن ظهور هؤلاء العمالقة الذين أوردنا أسماؤهم في السابق قد تمردوا على هذه التقاليد الدينية الموروثة ، وابتعدوا عن التعصب الشديد لطبقة الأشراف بأثينا ومن يدور في فلكهم من رجال الدين وعامة الشعب ، ولم يكن هؤلاء الكتاب يتناولون هذه الأساطير لمجرد عرضها على المشاهدين ، بل كانوا يعرضون فيها آراؤهم في المشاكل الاجتماعية والأخلاقية والسياسية .
وكان يوربيدس ( 480 – 406 ) قبل الميلاد أول من رفض الأسس الدينية الموروثة والتي قامت على الأساطير اليونانية القديمة ، وبالرغم من أن يوربيدس كان يهاجم أعداء وطنه ، إلا أنه لم يجار الأشراف والحكام ، بل كان يعشق الفلاحين ويعطف على الرقيق ، وكان يؤيد الكادحين ، ولعل هذا راجع إلى عمق نظرته الفلسفية وشمول وجدانه الفني في النظرة إلى الإنسان . وقد أتهم يوربيدس في دينه ، فوجهت له تهمة الكفر والزندقة . مما جعله يفكر كثيراً بترك أثينا .
ويرى بعض المؤرخين أن انتقال يوربيدس من أثينا إلى مقدونيا وموته بها ، كان خلال هيمنة مقدونيا على الإغريق على يدي فيليب وابنه الإسكندر ، لذلك كان المسرح في تلك الأيام يلعب دورا يشبه دور الصحافة والدعاية وغيرهما من العوامل التي ترفع اسم الأمم ، ولعل هذا يفسر جانبا من اختيار يوربيدس للشكل النهائي في مسرحية هيلين .
ويعتبر يوربيدس من أشهر ثلاث كتاب في التراجيديا الإغريقية والاثنان الآخران هما أسخيلوس و سوفوكليس . وقد كتب ما لا يقل عن 92 مسرحية ولم يتبق منها إلا القليل وهو 19 مسرحية . بالقياس إلى عمله الدرامي الكبير الذي خلد اسمه كأعظم كاتب وشاعر في المسرح اليوناني القديم . ومن أشهر مسرحياته … الكستيس ، وميديا ، وهيراقليات ، والكترا ، وهيلين ، وطرواديات ، وفينيقيات … وقد قال عنه أرسطو في ( كتاب الشعر) :
( إن يوربيدس وإن لم يكن أعلى من غيره في القصد ، إلا أنه على رأس الجميع في التراجيديا ) .
أما سوفوكليس ( 496 ــ 406 ) قبل الميلاد . فكان من أهم كتاب التراجيديا في اليونان القديمة ، وكان شاعر أثينا المفضل ، بل لقب بالكاتب التراجيدي المثالي في أنظار معظم النقاد ، وتعتبر تراجيدياته أكثر إنسانية من أي شاعر آخر ، ومن أهم مسرحياته … أوديب ملكا ، أوديب في كولونون ، أجاكس ، أنتيجوني .
ومن أهم شعراء التراجيديا أيضا كان أسخيلوس ( 525 – 456 ) قبل الميلاد . وهو أكبر هؤلاء العمالقة سنا . ويعتبر مؤسس التراجيديا اليونانية ، ويرجع الفضل إليه في زيادة عدد الممثلين إلى اثنين بعد أن كان التمثيل يعتمد على ممثل واحد ، ولم يتبق من أعماله سوى سبعة مسرحيات أهمها الفرس ، المستجيرات ، السبعة ضد طيبة ، بروميثيوس في الأغلال . ويقال أن أسخيلوس قد أصيب من قومه بسبب فلسفته المعارضة لهذا الدين ولكنه نجا بعد ذلك ، أما سوفوكليس فقد اتعظ ولم يمس الخرافات والتقاليد البالية بشيء ، واشترى بذلك محبة الجماهير إلى آخر حياته .
والوحيد الذي انفرد بالكوميديا الإغريقية هو أرستوفانيس ( 458 -380 ) قبل الميلاد . وهو من أشهر شعراء الملهاة قديما وحديثا ، وتعتبر مسرحياته على جانب كبير من الأهمية التاريخية ، وكان له أسلوباً فكرياً وتحليلياً وجدلياً في طرح موضوعاته ، وقصد به إقناع المشاهدين برسالته ، وكان أرستوفانيس قد قدم العديد من المسرحيات ، وما تبقى منها ودوَن في المكتبات ، هو أحد عشر مسرحية ، أشهرها مسرحية السلام والتي قدمها عام 421 قبل الميلاد وحازت على الجائزة الثانية في ذلك الوقت .
ثم قدم مسرحية السحب في سنة 423 قبل الميلاد ، وحصلت هذه المسرحية على الجائزة الثالثة ، وله العديد من المسرحيات المعروفة والمترجمة إلى عدة لغات منها : مسرحية الضفادع ، ومسرحية الطيور ، ومسرحية الزنابير ، ومسرحية برلمان النساء ، ومسرحية أهل أخناريا . وقد أشاد الناقد الأمريكي ( إلدر أولسن ) في كتابه ( نظرية الكوميديا ) الذي كتبه عام 1968 بالكاتب أرستوفانيس وقال : ( إذا أردت أن تصنع صورا كاريكاتيرية درامية مثل صور أرستوفانيس ، فعليك أن تبحث عن أنواع ألمجاز ألتي تخاطب السمع أو البصر ، تلك ألتي تتضمن أحداثا يمكن تمثيلها على خشبة المسرح ، ولا بد أن تكون مثيرة للضحك ).
ومما يدل على مكانته الأدبية تلك الجملة المكتوبة على قبره والتي تنسب إلى أفلاطون وقال : ( لقد بحثت ربات العفو والإحسان عن معبد خالد مع الأيام ، فاكتشفت روح أرستوفانيس ) .
لعلنا هنا نعترف بالحقيقة إذا قلنا ان فن المسرح هو من أكثر الفنون نضجا لارتباطه بمشاكل الحياة والإنسان . فالمسرح بحاجة إلى مهارة فنية عالية جدا تجمع بين القصة والممثل والحوار والجمهور لإظهار الجانب المثير في حياة الناس . والمتأمل في فنون المسرح سيرى انه قطعة منسوخة من حياة الناس وأفعالهم ، ولكنه لا يختار من الفعل إلا الجانب المهم والبارز من الحدث ، والذي هو أكثر ما يكون قدرة على الحركة والإيحاء .
فالكاتب المسرحي لا ينقل إليك كل ما يراه في الحياة ، كما هو كاتب الرواية ، بل ان أروع ما في كاتب المسرح هو الطاقة الإخبارية التي تتمثل في اختيار جوانب الفعل المثير التي تأخذك إلى المغزى المليء بالمعاني والألفاظ الهادفة . والمطلوب من المسرح اليوم كشف الواقع الحقيقي للناس دون تزييف لأن مهمته كانت وما زالت إظهار الأباطيل والأكاذيب التي أسدلها المغرضون والمستغلون داخل المجتمع على مر العصور ، وقد سعى العديد من كتَاب النصوص إلى تلك الغاية منذ القدم .
وما زال العديد من الكتاب في العالم يعتمدون على الماضي ، والكثير منهم يعيد إعداد الموضوعات الإغريقية من أجل عرضها على الجمهور، فهي تستحق منا ذلك ، وعلى القارئ العربي أن يبحث عن أعمال هؤلاء العباقرة أمثال : يوربيدس ، سوفوكليس ، أسخيلوس ، أريستوفانيس .
فهؤلاء جميعا هم الذين كان لهم دور كبير في وجود المسرح العربي والعالمي . وهم الذين جعلوا من المسرح لاحقا قوة مؤثرة في المجتمع ، وجعلونا كمتفرجين ندرك تماما أن المسرح ليس هو خدمة استهلاكية للترويج والإمتاع فقط ، وليس هو سلعة تجارية مطروحة في السوق ، بل وجد المسرح كقوة فعالة ، معبراً عن حال الفقراء والمظلومين في آلامهم وآمالهم ، وكان المسرح اليوناني القديم يعتبر ذهاب المواطنين إلى المسرح التزاماً وطنياً وإنسانياً ، وكانت الدولة تشرف على الإنتاج المسرحي وتشجعه ، وتخصص له الجوائز والمكافآت ، كما كانت تسدد ثمن تذكرة الدخول لغير القادرين …. أين نحن من المسرح اليوم ؟؟؟