د. مهند العزة
حينما تشرفت بالعمل لأول مرة مع المركز الوطني لحقوق الإنسان في بواكير عام 2007، من خلال المشاركة في حزمة تدريبات للسادة القضاة ومرتبات جهاز الأمن العام على اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة ضمن برامج تدريبية متكاملة حول اتفاقيات حقوق الإنسان كان ينفذها المركز بدعم من الأمم المتحدة، تفاجأت حينما طلب رئيس المركز في حينها دولة رئيس الوزراء الأسبق أحمد عبيدات مقابلتي، ليهنئني بما لديه من ذوق رفيع ومهنية عالية؛ على التدريب، وسألني إن كنت أوافق على أن أتشرف بترشيح اسمي لأكون عضو مجلس أمناء في المركز، لأشعر وقتها بالفخار والاعتزاز، أولاً لكون هذه المبادرة تأتي من شخصية وطنية كبيرة ورفيعة المقام بفكرها ووطنيتها مثل دولة أحمد عبيدات، وثانياً لأن المركز الوطني وقتها كان من منارات الدفاع عن حقوق الإنسان وترسيخها على الصعد كافة، إلى الحد الذي دفع أحد رؤساء الوزراء في تلك الآونة لوصف المركز بأنه “حزب معارض للحكومة”، هذا فضلاً عن السمعة الطيبة التي حققها المركز بفضل كوادره على المستوى الدولي، وما كان يضمه مجلس الأمناء من شخصيات قانونية وسياسية وممثلي مجتمع مدني متنورين ومنفتحين على آراء غيرهم دون تشنج أو تحسس غير مبرر.
كما هو ديدن عمل معظم مؤسساتنا وبكل أسف، تفقد حيويتها وبريقها برحيل من كان سبباً في إيجاد تلك الحيوية وذلك البريق بإخلاصه ومهنيته ومخزونه المعرفي والمهاراتي.. أخذ المركز يتراجع بخطوات مريعة إلى الوراء وبنحناء مخيف، وهاجرت غالبية الكفاءات التي انبنى المركز على أكتافها، فمنهم من التقطته هيئات أممية وآخرون آثروا العمل بشكل مستقل بعد أن أحكمت التوجهات الفردية والضغائن الشخصية وثاقها على رقابهم.
ما ليس من ديدن المؤسسات حتى في رحلة الوصول إلى هذا المصير البائس، أن يعتلي سدتها ويتحكم بها من هو «كافر» برسالتها ومبادئها ومنظومة القيم التي تعمل على ترسيخها والدفاع عنها.. إذ هو يرى في ذلكم كله «مؤامرة على الأمة.. وتغيير لقيمها.. ومحاولة لثنيها عن التماهي الأبدي مع عاداتها وتقاليدها..» وما إلى ذلك من الشعارات «الحنجورية» التي تنتقع بها ساحات المساجد الكبرى والأزقة المحيطة بها بعد صلاة الجمعة حينما تنعقد المهرجانات الخطابية لتنظيمات ومليشيات معاداة الحقوق والحريات والتجديد، مقدسو التطرف والإقصاء والتقليد، صحب منهجية وشعار: «الدين لنا والوطن أيضاً لنا».
حينما تم اختيار قيادة المركز الوطني لحقوق الإنسان، عبرنا عن استغرابنا وهواجسنا، ليقارعنا قليل من المتفائلين وكثير من المنخدعين بسيل من الاتهامات من مثل: التسرع بإصدار الأحكام المسبقة وإنزال صورة نمطية على جمع عريض من المتحزبين المتحزمين بكهنوت الدين الذي يتخذونه أداة ترهيب اتجاه كل من يخالفهم، فما بالك بمن يحاول كشف إفكهم وتدليسهم.
جاء توقيف الناشطة الحقوقية البارزة الزميلة نسرين زريقات بعد أن تم وقف المفوض العام من قبلها عن العمل بطريقة مسرحية مبتذلة، ليمثل النتيجة الطبيعية المتوقعة لهذا التشوه البنيوي الذي طرأ على مؤسسة عمادها –في الأصل- تسليط الضوء على القيمية لتشوهات التي تعتور المؤسسات والهيئات، وهنا لسنا بصدد مناقشة تفاصيل القضية والادعاءات والمزاعم التي أفضت إلى توقيف نسرين زريقات، فهذا أمر بات في عهدة جهات التحقيق القضائية، لكن ما يعنينا هنا هي الطريقة الرخيصة التي تم فيها تناول هذه القضية والتي أقل ما يقال عنها أنها تجسد «الردح الرخيص الحياني- أي العلني المتسم بالفجور» الذي يترفع عنه كل ذو خلق بل وبعض من ليس لديهم منه قطمير، ففي الوقت الذي تطالعنا فيه وكالات الأنباء والمواقع الألكترونية بأخبار عن تحقيقات مع موظفين وإحالة آخرين إلى الجهات القضائية أو هيئة النزاهة ومكافحة الفساد.. مع تكتّم كامل على الأسماء والصفات الوظيفية، ينتشر خبر توقيف الناشطة المؤثرة نسرين زريقات بالاسم والصفة وتفاصيل.. بأسلوب يعكس استهدافاً شخصياً وغيظاً دفينا، وقبل ذلك وذاك، فجور في خصومة ربما افتعلها «إمام» الإرهاب والتطرف الفكري الذي جعلته سخرية الأيام يعتلي بقدميه هرماً ما كان له حتى أن يستظل به.
كتب الأستاذ مالك عثامنة في مقال له على موقع الحرة بعنوان: من يشعل الحرائق في الأردن، المركز الوطني لحقوق الإنسان نموذجا، تحدث فيه باستفاضة وموضوعية عن البعد الشخصي والطموح السياسي لقيادة المركز، وبطبيعة الحال لا يمكن إغفال أثر البعد الأيديولوجي المتلبس بالسياسة.. الذي أفضى إلى جعل المركز نموذجاً «لإشعال الحرائق». أما اليوم، وبعد هذه المسرحية التي طالت الزميلة نسرين زريقات والتشهير بها بشكل ملؤه الفجور في الخصومة، فإن مشعل الحرائق -من وجهة نظري- انتقل إلى مرحلة حرق الخصوم الذين يؤمنون ويجلّون ما يزدريه هو ويرى فيه مؤامرة وربما خروج عن الملة.. من حقوق إنسان واحترام لرأي الآخر وقبول التنوع والاختلاف.. كيف لا، ولم يستحي كبيرهم أن يصرح في أكثر من مناسبة بحساسيته المرضية اتجاه «المساوة الجندرية.. وتكافؤ الفرص بين الجنسين»، ثم هو من قبل يحمل المجتمع مسؤولية اللتغير المناخي اوانحباس الأمطار «بسبب معاصيهم..وذنوبهم.. وبعدهم عن الله..».
إذا كان صحيح أن «ربّ ضارة نافعة»، فإن الطريقة غير الأخلاقية والشخصية التي تم من خلالها تناول «قضية» الزميلة نسرين زريقات؛ تعطي إنموذجاً على ما تؤول إليه الأحوال حينما يتولى سدنة النرجسية الكهنوتية زمام الأمور، لذلك فإن التوازنات السياسية والحزبية لا ينبغي بحال أن تكون ورقة تساوم بها أي دولة على مكانتها وسمعتها في مضمار حقوق الإنسان الذي كان وسيظل مؤشر على مدى تحرر المجتمعات من توحشها وارتقائها إلى مصاف البشر الذين خلقوا ووجدوا ليحيوا حياة الكرام والحرية والاحترام.
لا تحتاج نسرين زريقات لشهادتي، فكل من يعمل في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان يعرف إخلاصها وتأثيرها وشجاعتها وجرأتها في الحق التي ربما كانت سبباً في استهدافها بهذه الطريقة المشينة، لكن أقول لها أن ما يحدث معها هو مزيد من الصفحات البيضاء في سجلها الناصع، ودَرَكَات ظلامية مستمرة في أرث من يسعون لاغتيال شخصيتها من قادة قطعان الفكر الظلامي، الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما يريدون ما لا يريده المنطق والخُلُق والتفكير القويم.
نسرين في عهدة القضاء ميزان الحق الذي لا يظلم في رحابه أحد، وستتحدث الأيام عن نفسها وهي تلفظ خبثها وخبالها إلى حيث يستحقان ويستحقوا.