مكرم الطراونة
ينضب إكسير الحياة من مستشفى السلط الجديد. ينفذ “الأكسجين”، ويختنق عدد من مرضى كورونا حتى الموت، فيأتي الرد الحكومي خجولا مكررا إلى الحد الذي ملّ منه الناس، ولم يعد يقتنع أحد به.
الطريق من عمان إلى موقع المستشفى في البلقاء، لا يتطلب سوى 45 دقيقة في ذروة أزمات السير، لكن أكثر من ست ساعات انقضت، حتى تحرك وزير الصحة المستقيل إلى المستشفى ليتابع ما يجري فيها. ست ساعات احتاجتها الحكومة ليعلن رئيسها، من مكتبه في الدوار الرابع، تشكيل لجنة تحقيق في هذه الفاجعة.
ما زاد الطين بلة تصريحات حكومية عديدة، غلفها الارتباك والتضارب والافتقار لأدنى فهم لحالة الحسرة والغضب التي عمت المملكة من شمالها لجنوبها على الفاجعة التي صوّرت الإهمال والترهل في أجلى صورهما!
وحده الملك ارتدى بزته العسكرية ولم يأبه لـ”بروتوكول” أو أي ترتبيات مسبقة، وسارع إلى المستشفى، يواسي المكلومين، ويعيش معهم الفاجعة. بحزم يتخذ قراره من الميدان، من قلب الحدث، ولسان حاله يقول للأردنيين جميعهم “كل من قصر سيحاسب. لن تمر هذه الحادثة بدون عقاب”.
باستثناء عبيدات، غاب رئيس الوزراء، وغاب المسؤولون، وتأخر النواب، لكن الملك كان حاضرا، بينما لباسه العسكري كان يبعث برسالة مهمة للجميع، مفادها أن الأمر ليس مجرد أزمة في وزارة الصحة وحدها، بل هي أزمتنا جميعا؛ فالأرواح التي أزهقت ليست أرقاما تنشر في إيجاز صحفي.ورأينا، كذلك، كيف ركز الملك في كتاب التكليف السامي للحكومة الحالية على صحة المواطن بالقول “بالنسبة لي، فلطالما كانت وستظل صحة المواطن وسلامته أولوية قصوى”.
لا يمكن نسيان أن تشكيل هذه الحكومة جاء وسط تداعيات جائحة كورونا، وهي تدرك جيدا أنها لم تأت في ظرف ينعم به البلد بالاستقرار، ما يعني أن حجم التحدي أكبر، والعمل يجب أن يكون في ذروته، ولذلك كان جلالته مباشرا وهو يوضح في كتاب التكليف أن “الظرف الاستثنائي يتطلب بذل أقصى الجهود لتحسين النظام الصحي ورفع جاهزيته وقدرته”.
لكن، ما حدث يوم أمس في مستشفى السلط الجديد من فقدان 7 أرواح أردنية نتيجة الإهمال والتقصير في أبسط الأمور، والتي تتمثل في توفير أكسجين لمرضى كورونا، يعكس حقيقة أن القائمين على القطاع الصحي في الأردن ليسوا على قدر المهمة والمسؤولية؛ لقد خذلوا الجميع بصورة مأساوية.
ولأن من يقصر في عمله يغادر موقعه، كان هناك أمران ملكيان، الأول إقالة وزير الصحة الدكتور نذير عبيدات، والثاني إقالة مدير مستشفى السلط عبد الرزاق الخشمان الذي تم خلال زيارة للملك للمستشفى عقب الحادثة مباشرة؛ بزي عسكري، وبغضب واضح على وجه جلالته. الملك كان بين أبناء السلط المتواجدين في المستشفى تأكيدا على أن المصاب جلل، والخطأ جسيم، ولن يمر بلا حساب.
لا وقت ولا مجال لإضاعة أي لحظة عندما يتعلق الأمر بصحة الناس. الحكومات كلها كلفت بإيلاء صحة الأردنيين الأهمية القصوى، ووجوب العمل في الميدان بين الناس ووسط مشاكلهم وهمومهم، و”تسخير قدرات القطاع الصحي، ضمن سياق مركزي متناسق يمكننا من الاستجابة السريعة لهذه الجائحة ومتغيراتها وتطوراتها”.
يوم أمس، تلقى الأردن طعنة في خاصرته؛ حين بدا المشهد مختلفا تماما، وظهر وكأن شيئا لم يتغير على أرض الواقع، بل وكأن الأمور انحدرت إلى درك أسوأ مما كانت عليه مع بداية الجائحة قبل أكثر من عام. كل الجهود السابقة بدت وكأنها لم تكن؛ لا مستشفيات مجهزة، ولا قدرات وطاقة استيعابية كافية، ولا مستشفيات ميدانية أفلحت ولا.. ولا. الثقة بالنظام الصحي تلاشت في لحظة واحدة، كماأنالثقة بالحكومة والنواب في الانهيار.
أرواح أزهقت، لسبب لا يمكن قبوله ولا تخيل أنه يمكن أن يحدث في الأردن الذي لطالما تباهى أمام العالم بقدراته الصحية، ولطالما كانت مستشفياته محجا ومقصدا لكل طالب استشفاء وعلاج.
بين ثنايا الحادثة الكثير مما ستكشفه الأيام القليلة المقبلة؛ فالوضع وصل درجة لا يمكن احتمالها.