أ. سعيد ذياب سليم
أصوات المدينة
اتخذْ مكانا منعزلا، أنصت وتأمل، واستمع للأصوات حولك، ستجد كثيرا من الأشياء تحادثك، تصلك أصوات حركة السيارات من الشارع المجاور، أصوات الباعة، منبه سيارة الإسعاف، موسيقى سيارة الغاز ، أصوات الأولاد يلعبون، مواء قطة الجيران، رنين الهاتف، دقات منتظمة، هدير طائرة، غابة من الأصوات، ذلك هو ضجيج المدينة.
أهي أصوات مجردة؟ كلا! كل صوت يحمل لك معلومة محددة، هذه سيارة صغيرة، وتلك شاحنة كبيرة، هذه حديثة صوتها موسيقي، وتلك أقدم بكثير صوتها أجش كمدخن هرم، بائع الخضار يقدم لك نشرة أخباره ، تستطيع الحكم على بضاعته من أسعاره، فكيف يكون ثمن صندوق البامية دينار وأنت قد سألت عنه بالأمس فكان ثمن الكيلوغرام الواحد دينارين ونصف؟ أحدهم يعلّق إطارا على الحائط، فيصدر عنه تلك الدقات، بكاء طفل لا ينقطع لا بد أنه مريض! وهكذا في مكانك المنعزل تصلك أصوات الحياة ، تتحرك، تتنفس بانتظام، تلتف حولك كمعطف دافئ في ليلة باردة، تدعوك لتحتفل بالحياة.
مشهد صوتي منوع جميل، يختلف باختلاف الوقت من النهار أو الليل، فإن كنت محظوظا ورصدت المشهد مبكرا، استمتعت بتغريد عصافير الصباح، تستقبل نهارا جديدا، تغتسل بندى الفجر، تحط على شجرة اللوز قرب النافذة، تشرب معك فنجان قهوتك، تغازل صوت فيروز، تهتز مع أغصان الشجرة، ثم تطير تاركة صدى زقزقتها، لتبدأ نهارك بابتسامة.
في آخر الليل تختلف الصورة، يسيطر نوع من الهدوء، بعد أن تسكت أصوات الأعراس، صوت قفل ، ربما أحدهم يغلق بابا من الداخل، زعيق عجلات سيارة مسرعة تفاجأ سائقها بمطب، أزيز بعوضة، تحط على يدك، تحركها بشكل لا إرادي فتبتعد، صراع قطط، فراشات مروحة تدور وتدور دافعة هواء دافئا باتجاهك، هاتفك ينبهك عن وصول رسالة ما، لتكتشف أن الكثيرين يتصفحون “الفيس بوك” في هذا الوقت من الليل، نوع آخر من الحياة في الفضاء الأزرق.
يختلف المشهد شتاء، نقر خفيف على النافذة، ثم ينهار ستار الأمطار متكسرا على الأسطح كحائط حجري ، جريان المياه في جداول صغيرة، تدفق المزاريب، صفير الريح وكأنه عزف ناي حزين، يسافر بنا إلى ذكريات بعيدة.
يختلف المشهد الصوتي باختلاف المكان، سوق الخضار مثلا له سمات صوتية مميزة، فهذا يدلل خياراته، وذاك يغازل حبات البندورة، أحدهم ينادي ” أبو نملة يا موز”، وآخر يرد عليه ” على السكين يا بطيخ”، صراخ و أهازيج ، بهجة ومرح تستقبل رواد السوق، ضجيج ترتاح له النفس.
عندما تزور مدينة جرش الأثرية، قم بزيارة المسرح الجنوبي، لتعرف خصائص المكان، قف في بؤرة الصوت هناك وتحدث للجمهور، لينتقل صوتك في زواياه بطريقة عجيبة ، تتساءل كيف أدرك المعماريون هذه الخصائص واستفادوا منها في التصميم، صنعوا المسرح على صورة نصف دائرة، لينتشر الصوت بطريقة لا يتداخل فيه مع الصدى المرتد، تضخم صوت الممثل على المسرح وتقضي على ما سواه .
هذه الظاهرة تراها بشكل آخر في أماكن عدة ، ربما مررت بقاعات فسيحة، أقبية أو ممرات خالية في مباني أثرية، لتسمع همهمات يقشعر لها بدنك، وتنظر حولك في رعب، يخيّل لك أن حراس المكان استيقظوا، هي أصوات مضخمة جاءت من أماكن بعيدة، بترددات غير مسموعة، لكن الظروف البيئية للمكان، ومزيج من الصدى صنعها، ساعد في ذلك مستوى الرطوبة وعوامل أخرى، تتساءل إن كانت صنعت خصيصا للعب هذا الدور، وإثارة هلوسات وصور مخيفة، في الظلام خاصة.
هل نستطيع أن نحيا في سكون بعيدا عن هذه الأصوات؟ برغم حاجتنا لذلك لا نستطيع، السكون يخيفنا، يذكرنا بالوحدة، يجعلنا نبحث من وراء زجاج النافذة عن مصدر هذا الهدوء غير الطبيعي. الضجيج هو الحياة، ربما يستفزنا ساعة، ويدفعنا لطلب شرطة الضجيج، لكن في الغالب نبحث عنه و نرتاح له، فإن لم نجده حولنا، نصنعه، نشغّل جهاز التلفاز ليتابعه عقلنا الباطن و نحن منشغلين عنه، أو نضع سماعات الاذن لنستمع للأجهزة الصوتية المختلفة، نلتحف بالضجيج، ونختبئ فيه من المجهول.
تسعدنا الأصوات الموسيقية عند سماعها ،وربما تثير فينا الحزن، لكن من المسؤول عن تلك الدفقة المفاجئة، من الحزن، الفرح، الإحباط أو الصداع؟ هل هو نتاج ما يصلنا من موجات غير مسموعة؟ يتفاعل معها العقل الباطن، فتؤثر على المزاج العام، أهي أصوات المدينة بما فيها من ضجيج عذب أو مزعج وما تشكله من خلفية موسيقية للحياة؟