د . عودة أبو درويش
اكتشفت في وقت متأخّر من آخر ليلة في رمضان ، أنّ الماء الذي أشتريه عادة من محلّات تنقيته من الشوائب ، قد نفذ . وكان عليّ أن آخذ معي الأوعية وأنا ذاهب الى صلاة العيد ، لعلّي أجد محلّا فاتح أبوابه ، ولم أكن متفائلا بذلك ، بعكس طبعي المتفائل دوما . صلّينا صلاة العيد واستمعنا الى خطبة دعا فيها الخطيب الله أن يديم الأمن والأمان علينا , وان يعيده على الدول العربيّة التي افتقدته منذ سنين . سلّم الناس على بعضهم مهنّئين بعيد فطر سعيد ، وهم يلبسون ثيابا جديدة ، مبتسمين فرحين . وكان الأولاد أكثرنا فرحا ، وكلّ واحد منهم مزهوا بملابسه الجديدة ومطبقا بيده على أوّل عيدية يحصل عليها . ركبت السيّارة وسرعان ما تذّكرت الماء . ولم أبحث طويلا فقد كان أحد المحلّات مشرعا أبوابه .
سلّمت على العامل في المحل وباركت له بالعيد . أطرق برأسه وتمتم بكلمات مقتضبة وغير مفهومة . وكانت من آلة التسجيل تصدح أغنية حزينة بلهجة عراقيّة ، عن مفارقة الأحباب والبكاء عليهم . وعن الدنيا الظالمة التي لا تعطي الناس ما يأملون منها . لم أستطع كتمان انزعاجي من الأغنية وحزنه ، فقلت محاولا أن يكون كلامي لطيفا ، اليوم عيد وكلّ الناس مبتهجين ، وأنت تعمل وغير سعيد وفوق ذلك تستمع الى أغنية حزينة وتجبرنا على أن نستمع اليها . افرح مثل الناس ولا تبتأس ، فيتخلّون عنك في مثل هذا اليوم . نظر بشرود وقد نسي اغلاق صنبور الماء بعد أن امتلأ الوعاء ، وقال بلهجة حزينة ، وهل يفرح من فقد وطنه وأهله .
أسقط في يدي وجلست على كرسيّ . أحسست أنّه وحيد ويريد أن يروي قصّته لأي أحد ، لعلّ من يستمع اليه يستطيع أن يحمل عنه بعض حزنه . أنا من قرية في شمال سوريّة ، اسمها الحلوة . كانت حياة كلّ أهلها حلوة جميلة هانئة ، مثل كلّ القرى في الريف . المشاكل بين أهلها عاديّة ، سرعان ما يتدخّل بها الوجهاء فيتصالح الناس . ولم نكن نستمع كثيرا الى أخبار الأحداث التي تدور خارج قريتنا . وكان أحد الشبّان قد انحرف عن الطريق السوي ، فنبذه الناس وطردوه من القرية . وقبل سنوات و في فجر يوم بارد ، دخلت الى القرية سيّارات مسلّحة ، يقودها الشاب المنحرف . جمع الناس في الساحة . أخبرهم أنّه القائد والوالي والمدير الجديد ، وأن عليهم أن يرجعوا اليه والى معاونيه في كلّ شيء ، والّا فالويل والثبور لهم . حاول أبي أن يتصدّى له ويذكّره بأيامه الخوالي . حكم عليه بالقتل لأنّه لم يطع الوالي .
توالت القوانين والأنظمة الجائرة التي يصدرها الحاكم الجديد ، وكان أعوانه ينفّذونها بكل قسوة ، ويصدرون الأحكام على الناس ، فهذا سارق وهذا كافر وذاك عاصي . ويجبرون الناس على أن ينظمّوا اليهم . فاختبأت منهم وهربت مشيا الى قرية أخرى ، ثمّ توّجهت الى الحدود ، ولجأت مع كثير من الناس الى مخيّم للاجئين ، وكنت محظوظا أن خرجت منه ووجدت عملا في هذا المحل . أنا أحمد الله دائما ، مع أنّي علمت أنه لم يبق من أهلي أحد ، بعضهم مات برصاصة وبعضهم تحت الردم .
التفت الّي وفي عينيه دمعة ، وقال ، شكرا لك أن استمعت الّي ، واعذرني لأنّي أثقلت عليك . قصّتي مثل آلاف القصص ، لكنّي كنت بحاجة أن أرويها لأحد . ثمّ مدّ يده الى المسجلة ليغيّر الأغنية ، علّه يجد أغنية تليق بالعيد السعيد ، وعسى أن تغيّر من واقع الحال شيء ، أو أن تذهب عنه الحزن الشديد . حاولت أن أوّدعه بكلمات أسرّي بها عنه ، فلم أجد لأنّي على يقين بأنّ أهله لن يعودوا . وأنّ الآخرين يرسمون لوطنه خارطة جديدة ، ربّما ستقسّم قريته الى قسمين أو أنها لن تكون موجودة ، ولن تعود حلوة جميلة هادئة
1 تعليق
رزان العرود
العيد ليس اغنية وكذلك الفرح قالها الكاظم كل يغني على ليلاه لا وربي الظالم يغني الفقير يسرق ليلاه ويحمل الثقل على كاهله الهزيل ويل للظلم المستبد لعل العيد ليس اغنية ولكن الرج دعوة الى الله الواحد الله يصبرنا جميعا