د. محمد ابو رمان
تعرّفت على إنتاج أمين شنّار، عندما كنتُ أعمل على كتابي “أسرار الطريق الصوفي: مجتمع التصوف والزوايا والحضرات والطرق في الأردن”، خلال البحث في الأدب والفن الصوفي، فذكر أصدقاء عديدون اسمه. لكن الغريب، وعلى الرغم من عملي في الإعلام، إلاّ أنّني لم أعرف عنه إلاّ بعدما بدأت رحلة البحث الصوفية، ما فسّرته لاحقاً بتلك العزلة الاختيارية التي فرضها على نفسه منذ بداية السبعينيات، إلى أن توفي في العام 2005 (في العقد السابع من عمره)، وكانت الفائدة الكبرى تلقيتها من الصديق زياد سلامة، عندما تكرّم بتزويدي بمسودتين لكتابين أنجزهما عنه، لم يكن أحدهما قد نشر بعد.
تلك العزلة الصوفية التي جعلت شنّار يصر على الابتعاد عن الأضواء، بالرغم من أنّ عمله كله في الأضواء، في الشعر والأدب المسرحي والرواية، والكتابة الصحافية، إذ كان محرّر المقالات في صحيفة الدستور فترة طويلة، وكاتباً افتتاحيتها في أوقاتٍ كثيرة.
كتاب زياد سلامة “أمين شنّار أستاذ الجيل” (وزارة الثقافة الأردنية، عمّان، 2020) يردّ الاعتبار لهذا الأديب الذي يعدّ من أبرز الأدباء والشعراء الأردنيين، إن لم يكونوا العرب. ولولا أن وصيته (كما أخبرني ابنه)، بعدم نشر أعماله بعد وفاته، لكان كتاب سلامة الآخر عن الأعمال الكاملة له (شعر ومسرح ورواية) قد صدر، وما يزال هنالك حوار مع عائلته للوصول إلى نشر هذا الإنتاج الأدبي الجميل والمدهش.
لم تكن صوفيّة أمين شنّار طُرقية أو دروشة، بالمعنى المعروف، بل أقرب إلى الثورة الروحية الشديدة
لماذا أستاذ الجيل؟ لأنّه تولى رئاسة تحرير مجلة “الأفق الجديد” في ستينيات القرن الماضي، وهي المجلة التي كان لها أثر كبير في تخريج جيل من المثقفين والأدباء الفلسطينيين، ممن أصبحوا روّاد الحركة الأدبية لاحقاً. ولماذا وصفته بالصوفي الثائر؟ لأنّه جمع، في شعره وأدبه ومسرحه، بين النزعة الصوفية الواضحة لديه، والتي تكرست في السبعينيات، والنزعة السياسية الواضحة في نقد الواقع السياسي من زاوية إسلامية، وكان في بداياته في حزب التحرير الإسلامي. وقد حازت روايته “الكابوس” على الجائزة الأدبية لصحيفة النهار البيروتية مناصفة في العام 1968 مع رواية تيسر سبول “أنت منذ اليوم” متحدثاً فيها عن أسباب الهزيمة.
لم تكن صوفيّة أمين شنّار طُرقية أو دروشة، بالمعنى المعروف، بل أقرب إلى الثورة الروحية الشديدة، التي تستبطن احتجاجاً على مآلات الواقع السياسي، وهو الأمر الذي يمكن أن نلمسه في قصيدته “إلى ولدي” (بمناسبة ميلاد ابنه عمّار) في 1966، ثم تتوالى قصائد “فرح لا ينتهي” و”ديمة النور”، ثم قصيدته التي توّج فيها عشقه الصوفي “أويس” (نسبة إلى أويس القرني التابعي الجليل الذي وصفه الرسول الكريم لأصحابه، وكان يمثل لدى الطرق الصوفية لاحقاً قدوة ونموذجاً على إمكانية التصوّف المباشر من دون شيخ أو طريقة متوارثة).
من يقرأ شيئاً من شعر شنّار لن يعجز عن اكتشاف عمق الحالة الصوفية لديه، والتي امتزجت مع انكسار ذاتي في عالم السياسة والفكر، لمن كان في شبابه من قيادات حزب التحرير الإسلامي. .. لماذا اختيارالعزلة، أو تقنين علاقاته إلى أبعد مدى؟ السبب يفسّره بعضهم بالانتكاسات السياسية، وما حدث معه شخصياً عندما فوجئ أنّه طرد من التلفزيون (في 1972)، بعد أحداث أيلول 1970. لكن من الواضح أنّ السبب وجداني أكثر من كونه مرتبطاً بطبيعته وشخصيته، وتفضيل الظل على الأوساط الصاخبة، وهو أمرٌ يبعث على السلام الروحي، ويتناسب تماماً مع الفلسفة والخيارات الصوفية.
يرقى شعر شنّار وأدبه عموماً إلى مرتبة عالية من الإبداع والتميّز والمعاني المتدفقة والرمزية المتخفية
ليست مبالغة أو حماسة في القول إنّ أمين شنّار هو بالفعل شاعر التصوّف الأردني، بلا منافس، ويرقى شعره وأدبه عموماً إلى مرتبة عالية من الإبداع والتميّز والمعاني المتدفقة والرمزية المتخفية، في قصيدته “فرح لا ينتهي” يمكن الوقوف على بعض المقتطفات:
نور عقلي؟ لم يكن بعد معي، / سَرَقوا نَعْليَّ في وقت سجودي، / فانتبهتُ، مزقوا ثوبيَ في وقت سُباتي فصرختُ،/ قلتُ: هل أمشي على دربهمُ/ حافياً عُريان؟/ قالت: دونَكَ الأرضَ حذاءً فانتعلهُ/ وخماري لك، ثوباً ساتراً إياك عن أعينهمْ
**
لا، وربي!/ أنا من لحظة دفء وسكينة/ وإلى واحة نعمى!/ جسدي أولمته للجائعين/ ودمي أهدرته للظامئين
**
وطوينا برزخ النور وسرنا/ بين غرقى وحيارى وضباب ومقابر/ قلت لو يُكشف عن عين غطاها/ لاستنارت بسناها/ ولما زلت خطاها../ لو../ وأطرقت مليا.. وبقلبي عبرات
كنت في أمسية الدهر وحيداً/ وإلى شرفتها البيضاء تمضي بي عيناها صعودا/ ومع الأنفاس يزداد وجودي دفقة في طرفة العين،/ وأزداد مع التسبيح والتحميد والذكر وجودا..
**
“أنا في بابك ألقيت عذاباتي،/ ومددت سهادي. …
أمّا في قصيدة أويس نجد الإبداع والتجلّي الصوفي عندما يبدأ بالبحث عن أويس القرني، ثم يؤكد أنّه وجده في قلبه بعدما كان يبحث عنه في كل مكان:
“وقفتُ بأبواب مكة أسأل عنكَ الحجيج/ أفتش أفئدة الطائفين/ أدسّ يديّ في صدور المصلين والعاكفين/ أفيكمُ أويس؟ أفيكمُ أويس؟”
“كفى!/ لن أناشد ركب الحجيج،/ ولا السحب المثقلات/ ولا الطير والوحش عنك،/ فأنت بقلبي …/ يمامة حب بقلبي/ غمامة نور بقلبي/ منحتك عمري/ لتقتات من أضلعي/ وتشرب من أدمعي”
فهل وجد أويسه؟