إرفين ديالوم روائي أمريكي ترجمة: خالد الجبيلي رواية من القطع الكبير، 442 صفحة ، في 22 فصلا، الطبعة الأولى صدرت في 2015 من منشورات الجمل – بيروت في البداية لا بد أن أقول أن هذه الرواية شدتني إلى درجةٍ كبيرة، والروايات عندي ثلاث أنواع، نوع يشدك فيخطفك مما يدور حولك إلى أن تنتهي منها في يوم أو يومين حسب حجم الرواية، ورواية تشدك ولكن زخامة ما تقدمه وعمقها يفرض عليك أن تقرأها بمهل، ورواية لا ترتبط بها فلا تستطيع أن تكملها. أُصنف هذه الرواية بالنسبة لي من النوع الثاني. وتقييمي لها 5/5 بلا أدنى شك. يَشبكُ الروائي يالوم في روايته المصنفة تحت بند #الروايات_الخيالية من جهة و #الروايات_الفلسفية من جهة أخرى يًشبكُ بين شخصياتٍ معروفة لدى القراء والمثقفين بعضها لم تلتقِ فعليًا في الحياة. تبدأ الرواية بالشخصية الرئيسية الأولى وهو الطبيب النفسي جوزيف بريوير لكن هذه الشخصية الرئيسية سرعان ما تتنازل في الرواية لجزء من دور البطولة للشخصية الثانية في الرواية والشخصية المحورية فيها ألا وهو الفيلسوف فريدريك نيتشه.
خُيل إلي عندما رافقت هاتين الشخصيتين في عيادة الدكتور بريوير أنني سأكون أمام ملحمةٍ أو صراعٍ بين علم النفس من جهة والفلسفة من جهة أخرى، بين طبيبٍ يعاني من جهة من علاقة باردة جدًا مع زوجته فيقع فريسة خيالٍ جريء جامح مع الشخصية الثالثة في الرواية لو سالومي تلك الفتاة الروسية الحسناء التي عرضت عليه علاج نتشيه بالسر وهو شغوف جدًا بالنساء ولديه تاريخ معهن، ومن جهة أخرى فيلسوف معروف عنه فلسفته المتطرفة الشديدة يمثله رجل ذو شاربين ثخينين وفلسفته قائم على كون الإنسان يجب أن يتعالى على الضعف، بينما يكاد يخلو من تجارب مع الجنس الآخر ما عدا علاقة غريبة مع الشخصية النسائية الغريبة ” لو”. الشخصيتان التاليتان في الترتيب في الرواية متناقضتان أيضًا، إنهما “لو سالومي” صديقة أو معشوقة نتشيه، وسيغموند فرويد الطبيب النفسي صديق بريوير. واذا بدأت بالحديث عن فرويد فهو في وقت ظهور نتشيه كان لا يزال طالبًا لم يذع صيته بعد، لكنه في الرواية يظهر بصورة الطالب النجيب وأحيانًا صاحب فكر في الطب النفسي خصوصًا عندما يتناقش ويتحدث مع صديقه بريوير. أما لو سالومي فتلك الفتاة التي عشقها نتشيه لكنه لم يرتبط بها وقُطعت علاقته معها ومع صديقه بول ري، ويقدم المؤلف في نهاية روايته تحليلا للشخصيات والأحداث، وهذه الشخصيات جميعها تتشابك وتنتج مع شخصيات ثانوية أخرى رواية فلسفية نفسية خيالية ولا أجمل، أُشير هنا إلى أن الروائي الأميركي إرفين د. يالوم وهو طبيب نفسي بالمناسبة يؤرخ في روايته لبداية الفلسفة الحديثة في أوروبا في القرن الـتاسع عشر، والتي ساهم شخوص روايته في تشكيل مدارس فلسفية ذات قيمة أثرت في العلم والأدب جنبًا إلى جنب، فهذه الرواية تقدم لنا تلك الشخصيات المؤثرة والمؤسسة لِعلمي الفلسفة والطب النفسي. من الأمور الواضحة في الرواية هو أن المؤلف يحاول أن يقحم القارئ في فلسفة نتشيه وفي طريقة بريوير في العلاج النفسي، لا بل تجد خلطًا للأوراق فالمريض يصبح طبيبًا مستخدمًا الفلسفة والطبيب يصبح مريضًا محاولا الخوض في علاج نتشيه بوضع نفسه كمريض تحت التجربة. العناد يشكل جزء من الرواية ورائحة الأدوية وزجاجاتها تكثر، داء الشقيقة الملعون الذي أعاني منه شخصيًا، شكل مدينة فيينا وكراهية ومعاداة اليهود لا تغيب عن الرواية، التحليل النفسي والعلاج بالكلمات والعلاج بالتنويم المغناطيسي، والحوارات المطولة وهي عادة تظهر في الروايات الروسية والأوروبية أكثر من الروايات العربية بالمناسبة، ثم مواضيع مثل الجنس والعلاقات الأسرية والحب تتداخل ويكون لها نصيب في الحوار، ثم هناك مفاهيم فلسفية أو مصطلحات أو جمل فلسفية يقدمها الروائي بأسلوبٍ جذاب يجعلك أحيانًا تتفق مع نتشيه أو تختلف معه، تساهم بعلاج كلا المريضين أو تنفر منهما، تشفق عليهما أو تصر أسنانك على بعض المواقف السلبية التي تظهر أمامك منهما منها على سبيل المثال جملة ” أكنس مدخنتك”. جملة قصيرة ترددت في النصف الثاني من الرواية عدة مرات، والمدخنة هي تلك الجزء من البناء في البيوت القديمة في أوروبا تستخدم لتدفئة البيوت في فصل الشتاء عبر حرق الخشب فتخرج الأبخرة والغازات السامة عبر المدخنة للخارج، في فصل الخريف وقبل بدأ الشتاء تقوم العائلات في أوروبا بكنس المدخنة عبر تنظيفها من بقايا الرماد والخشب المحترق وكل ما يسد المدخنة حتى تعمل بشكل جيد، ومن لا ينظف مدخنة بيته يتعرض ذلك الشتاء لإنسداد في المدخنة قد يؤدي لعواقب وخيمة! هذه العبارة الرمزية قُصد بها أن ينظف الإنسان روحه من بقايا الماضي. الماضي المحترق والقديم الذي لا ينفع إعادة استخدامه، وأما بقاءه فخطر عليه، ولذا تكررت تلك العبارة بشكل ملفت للنظر… أكنس مدخنتك. ثم هناك الجملة التي تكاد تغيير مجرى الرواية وهي “إصنع قدرك” وغيرها. الطبيب والفيلسوف… المريضان يشفي كل منهما الآخر ثم تصبح الشخصيات الثانوية في الرواية مؤثرة جدًا وبدونهم لا يمكن للرواية أن تنتهي هذه النهاية غير المتوقعة. الربع الأخير من الرواية يقدم لنا صدمة وتسارع في الأحداث دون أن يفقد زخم الرواية جماليتها ورونقها بل نجح الكاتب في جعل القارئ يفشل في توقع الأحداث وسير الرواية. نهاية الحديث هو بيت من الشعر أرغب أن أذكره للشاعر مجنون ليلى يقول فيه: جُننّا بليلى وهيَ جُنّت بغيرنا …. وأخرى بنَا مجنونةٌ لا نريدها لعل هذا البيت يشير بشكل مُحكم للرواية مدار مقالي هذا. من لم يقرأ هذه الرواية بعد… أقدم له نصيحة: تفرغ لقرائتها… أعطي نفسك ” الحرية” لبعض الأيام لقراءة رواية عميقة، جميلة، وفلسفية بكل معنى الكلمة، وصدقني لن تندم.