أ. سعيد ذياب سليم
إلى إليزا
تقف على الجزيرة الوسطية للشارع، بجوار إشارة المرور، تحتضن كتبها ، تتصفح الوجوه الجالسة خلف عجلات القيادة تنتظر الإشارة الخضراء، وجوه عصبية، مترقبة، تتعلق العيون بالإشارة الحمراء، تنتظر لتنطلق بسرعة إلى وجهاتها، صباح بارد، مبلل بأمطار فبراير، بائع الجرائد الآتي من العقد الماض يسير بين السيارات، لم يشر إليه أحد، قطعت الشارع إلى الجهة المقابلة، لتنتظر الحافلة، بين هذه الوجوه يختفي وجهه.
ما زال شخصية افتراضية، يطل عليها من شباكه الأزرق، تكررت تعليقاته الساخرة، متعمدا إثارة غضبها، يتحدث في موضوعات عديدة وكأنه “Google”، من أين يأتي بكلماته ؟
تستمع للقطعة الموسيقية، ” Für Elise” ، همسات رقيقة، تلامس القلب، بوح عاشق ، رسالة حب يحملها مركب الأبدية، تنهيد روح ترددها مفاتيح ” البيانو” ، تسمع بينها صدى ضحكات، في خلوة تلتقي فيها الأيدي، يتراءى لها طيف راقصة تقفز ثائرة، يفترّ ثغرها عن ابتسامة، حملتها نغمات الموسيقى، قفزت بمرح ، نظرت حولها في حياء، تخشى أن يلاحظها أحد، لم تكف عن الاستماع إليها منذ أن أرسل إليها رابط المقطوعة، رسالة اعتذار، أثارت لديها الفضول، من هي إليزا؟
عوز وصمم قلب حياته إلى جحيم، أحاطت به ظلمة اليأس ، في قعر العتمة، يطرق القدر أبواب قلبه، لم يبدُ الحلم مستحيلا –كما اتضح فيما بعد ، اهتزت لرؤيتها أوتار روحه، في خطوها الملائكي إيقاعات سحرية ، جاهد حتى آمن أنها حقيقة وليس تهيؤات، أهي الصديقة ؟ أم التلميذة أم الحبيبة ! احتار الرواة حول من تكون، لكنها بقيت سرا، ذلك السر الجميل الذي حمله ” بيتهوفن” ورحل معه ، يطل علينا بين إيقاعات رسالته “إلى إليزا”، يغوينا لنرسم ملامحه، ونخترع له اسما، إلا أن غموضه أجمل.
للفن رسالة هادفة، صريحة تارة و غامضة أخرى، تحرك المشاعر و تهذب النفس، و ترتقي بالإنسان إلى مستويات نبيلة، كثير من الفنانين حمّلوا أعمالهم رسائل خاصة، لم يستطيعوا إيصالها بأنفسهم، فهذه موسيقانا و أغانينا العربية، وراء كل عمل قصة و حادثة، ما زلنا نبحث بين الكلمات المغناة، لنزار و عزيز و الأخوين رحباني، عن حبيباتهم، ننظر في بريق أعين المغنيين، و نستمع لألحان “بليغ” علّنا نجد فيها “وردة”.
لا تتوقف الرسائل على الأعمال الموسيقية، فالفن التشكيلي حمل رسائل ورموز دينية و وثنية تراها في العديد من الأعمال ، ربما يتبادر إلى الذهن “الموناليزا” و “لوحة العشاء الأخير” لـ “دافنشي” ،لا يتوقف الأمر عند ذلك بل يمتد إلى أعمال “مايكل أنجلو” في “قصة خلق آدم” و “فنسنت فان جوخ” في “شرفة مقهى في الليل”، وغيرهم الكثير.
صعدت إلى الحافلة وجلست في مقعدها ، لتنطلق بعد دقائق معدودة، كانت تراقب الأشياء تندفع إلى الخلف، أثناء ذلك ترد إلى خاطرها أفكار و آراء صديقها ، صديقها ! و من قال ذلك؟ ما يوفره لنا الواقع الافتراضي هو فرصة لاكتشاف الذات، نواجه فيه العالم من وراء ستار، ربما نكوّن صداقات في مختلف قارات العالم، فيكونوا لنا بمثابة الأصدقاء الخياليين، وهذا يدل على عشقنا للأسرار و الغموض فإن لم نجد فنخترع لنا واحدا، مثلما فعلنا في رسالة “إلى إليزا” ، حتى و إن كانت “إليزابيث” أو ” تيريزا” كما يتناقلون .