د.حسام العتوم
لفت انتباهي كمتابع ومحلل سياسي لكل ماله علاقة مباشرة في الشأن الروسي وعلى المستوى الدولي، الاختراق الأخير للبارجة العسكرية المدمرة البريطانية Defender)) لمياه إقليم القرم وسط البحر الأسود من الجانب الجنوبي وبعمق 3 كيلومترات في منطقة (رأس فيولينت)، والذي هو إختراق للقانون الدولي أيضا ولسيادة القرم المتنازع عليه بين روسيا الاتحادية وأوكرانيا رغم عودته لعرينه الروسي رسميا عام 2014 وصدر بيان لوزارة الدفاع البريطانية بتاريخ (23 حزيران 2021) مفاده بأن بارجتها الحربية العسكرية نفذت مرورا سلميا وفق متطلبات القانون الدولي وبيان مقابل صدر عن وزارة الدفاع الروسية (24 حزيران الجاري) حذر من انتهاك الحدود البحرية الروسية واختراق معاهدة الأمم المتحدة. وتصريح لوزير خارجية بريطانيا (دومينيك راب) من سنغافوره بعدم بروز تحذير روسي لبارجتهم الحربية وهو ما نفته موسكو. وتصريح مقابل لدميتري بيسكوف مدير المكتب الاعلامي لقصر (الكرملين) الرئاسي، اعتبر فيه الاختراق البريطاني للمياه الروسية استفزازا وعملية مخطط لها وعملياً، حذرت البحرية الروسية المدمرة البريطانية وطالبتها بالدوران والعودة من حيث أتت، وساند نداءها سلاح الجو الروسي عبر طائراته العسكرية (سو 24 )، وارتدى قطبانها ومن عليها غطاء الرأس الأبيض FROG خوفا من اندلاع حريق فوقها. والمعاهدة رقم 19 للأمم المتحدة بالمناسبة تعتبر مرور الحدود البحرية لأي دولة سلميا إن لم يتجاوز سيادة البلدان الأخرى.
والأهم هنا هو ليس حسبة ميزان القوة العسكرية بين مملكة بريطانيا العظمى وروسيا الاتحادية العملاقة، ولا بين حلف (الناتو) العسكري بقيادة أمريكا الذي تشكل بريطانيا جزءا هاما فيه. ونحن نعرف بأنها حسبة معقدة على مستوى السلاح النووي غير التقليدي وميزانية الدفاع، وإنما أهمية المحافظة على السلم العالمي وأمن العالم خاصة بعد قمة بوتين- بايدن الناجحة في (جنيف) الهامة بتاريخ 16 حزيران 2021 التي ركزت على الاعتراف بإتفاقية (مينسك) لعام 2015 الضابطة لأمن أوكرانيا غربا في (كييف) وشرقا في (الدونباس ولوغانسك)، والموطدة للعلاقلات الأوكرانية – الروسية وبالعكس، فالواجب أن تستمر طيبة بين (كييف) و(موسكو) كما كانت تماما قبل عام 2014 وهي المعاهدة التي توافق حولها مجموعة من دول العالم الهامة والمؤثرة مثل (روسيا، أمريكا، فرنسا، المانيا، وبيلاروسيا)، ورفضتها أوكرانيا نفسها صاحبة قضية الاستقلال والسيادة على أرضها، وذهبت بعدها للقاءات (النورمندي الرباعية)، والتي عزف رئيسها – فلاديمير زيلينسكي- لاحقا ومنذ مدة قريبة عن تلبية دعوة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين عبر وساطة للرئيس البيلاروسي الكسندر لوكاشينكو لزيارة موسكو والتباحث هناك مباشرة حول العلاقات الأوكرانية – الروسية، وترك المسألة الأوكرانية بين كييف والدونباس للحوار الداخلي بعيدا عن التدخلات الخارجية وفي مقدمتها الروسية والأمريكية.
بعد (جنيف) حزيران 2021 ليس كما قبله بكل تأكيد، وأمريكا بايدن رسمت لنفسها مسلكا موفقا يتفق مع روسيا ويطوق النقاط المختلف عليها، ومنها عدم اللجوء لتصعيد الحرب الباردة التي ترفضها روسيا مع سباق التسلح، وبدأت أمريكا تتفهم ضرورة الاقتراب من روسيا أكثر والذهاب لتخفيف منسوب الحرب ذاتها ولم يتطرق الرئيس الأمريكي جو بايدن لإقليم (القرم) التي حسمت روسيا أمره وعاد لسيادتها رغم اعتبار أوكرانيا له محتلا بعد خضوعه لسيادتها 60 عاما، ولكن وبرضا روسيا وإبان العلاقات الروسية – الأوكرانية الطيبة في عهد الرئيس الأوكراني فيكتور يونوكوفيج، في وقت اعترفت فيه أمريكا بإتفاقية (مينسك) سابقة الذكر وسبق لأمريكا بايدن أن مددت اتفاقية الصواريخ الباليستية مع روسيا لخمس سنوات قادمات، وأعادت اعترافها بإتفاقية إيران الدولية الموقعة عام 2015، ودعت لمواصلة محاربة الإرهاب في أفغانستان، ولتطويق جائحة كورونا المهددة لأمن البشرية.
وبطبيعة الحال فالحدث البريطاني لا يمثل حلف (الناتو)، ولا يتحدث باسم أمريكا كما أن زيارة مرتقبة للرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي لواشنطن بهدف تعزيز العلاقات العسكرية معها عبر بناء قاعدتين عسكريتين فوق الأراضي الأوكرانية بالقرب من حدود روسيا الجنوبية.
والسؤال العريض الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا لا تغير أوكرانيا من سياستيها الخارجية والداخلية ما دامت أمريكا راعية شأنها تغيرت – كما ألاحظ-، وبدأت الاستدارة صوب روسيا للتعاون معها، وابتسامات وضحكات رئاسية متبادلة، بهدف تطويق الحرب الباردة بينهما .
إذن ليست بريطانيا العظمى هي من تقرر أحقية (القرم) لأوكرانيا، وهو الذي حسمت أمره روسيا عن طريق دعوة الإقليم للتصويت على مستقبله عبر صناديق الاقتراع عام 2014، وكانت نتيجته الشعبية وقتها وصلت إلى (95%) من أصوات الناخبين الروس والأوكران والتتار، واعتمد مجلس الدوما (البرلمان والأعيان) وقصر الكرملين الرئاسي في موسكو النتيجة وعدد من دول الأمم المتحدة رغم معارضة عدد آخر ودول في مجلس الأمن، و(فيتو) روسي لمعارضة عودته لها وتوزع عدد سكان القرم البالغ أكثر من 2 مليون نسمة والمتربع على مساحة جغرافية مقدارها أكثر من 26 ألف كيلو متر مربع على نسب مئوية (58% روس، 24% أوكران، و12،10% تتار، ومسلمين).
وللقرم تاريخ ضارب الجذور في عمق الزمن، ففيه عقد مؤتمر يالطا بحضور (ستالين، روزفلت، وتشيرشل) نهاية الحرب الثانية 1945، وبحرب (القرم) تحديدا عام 1783، وهي التي تسمى بالحرب الروسية في مواجهة الأمبراطورية العثمانية والتي انتصرت فيها روسيا في عهد الإمبراطورة يكاتيرينا الثانية وبعدها ظهر مشروع الزعيم السوفيتي (نيكيتا خرتشوف) عام 1954 والعامل وقتها على ضم القرم ذو الاسم التتري القديم (المسجد الأبيض) لأوكرانيا لأسباب اقتصادية ومائية وبسبب الإنقلاب السياسي في (كييف) عام 2014 بقوة وجهد التيار البنديري الأوكراني اليميني المتطرف، وبعد صعود (يوري باراشينكا) لسدة الحكم بعد اسقاط نظام يونوكوفيج الموالي لروسيا، وتوجهه للتعامل مع الغرب على حساب إدارة ظهره لها، قررت موسكو سحب هدية خرتشوف الخاصة بالقرم ذو الموقع العسكري الإستراتيجي الهام بوجود قاعدة الأسطول النووي العملاق في مدينة ( سيفاستوفل) التابعة للأقليم على ضفاف البحر الأسود، وبعد نقل موسكو لجزء من ترسانتها النووية إليه حديثا.
وبطبيعة الحال جالت البارجة البريطانية الحربية في عمق المياه الروسية من وسط حضورها هناك لكي تشترك إلى جانب قطع حربية بريطانية أخرى مع قوات (الناتو) وأوكرانيا في مناورة عسكرية تمتد بين 28 حزيران و10 ايلول 2021، سبقتها مناورة روسية عسكرية (جيش أحمر وبحرية) مماثلة في البحر المتوسط 25 حزيران الجاري. ولقد أصبح مطلوبا من الشعب الأوكراني اليوم أن يقول كلمته عبر صناديق الاقتراع لإعادة العلاقات الأوكرانية – الروسية إلى سابق عهدها قبل عام 2014. وروسيا الاتحادية تقف مع تعزيز إستقلال أوكرانيا عبر الحوار الداخلي غربا وشرقا، ومع بناء علاقات متينة طيبة مع أوكرانيا، ومع بقاء اللغة الروسية مساعدة للغة الأوكرانية الرسمية والتاريخ الروسي والأوكراني عميق داخل المؤسسة السوفيتية السابقة ومنه الأيدولوجي الديني المسيحي الكاثوليكي والإسلامي، وعبر ذاكرة الحرب العالمية الثانية (العظمى) 1941 1945، وأيضا من خلال تاريخ المجاعة الواحدة Holodomor)) في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي.
والتاريخ المشترك في الحرب والسلم يصعب نكرانه أو حرفه عن مساره، والعلاقات الاجتماعية والثقافية الروسية – الأوكرانية باقية متداخلة وراسخة تماما كما كانت قبل انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991.