الأمن المائي العربي.. هل تحميه سياسة الحكمة أم العنجهية؟ سائل يعتبر الأوفر وجودا في الحياة، وُصف قديما بإنه أرخص موجود، وأعز مفقود، ذكره الله عز وجل (63) مرة في كتابه العزيز، وعبرّ عنه بأسماء مختلفة، ذكر الله الماء بإنه سبب الحياة وقرينها (وجعلنا من الماء كل شيء حي)، بنى الإنسان على ضفاف المياه أرفع الحضارات، وحدثت عندها وحولها أقوى التفاعلات بين بني البشر؛ مرةً عبرت عن التعاون والصداقة بين الشعوب، ومرةً أخرى كانت سببا في اثارة النزاعات بينها، تحتاجها كل الكائنات الحية، أمّا الانسان فلا غنى له عنها في كل نشاطاته من زراعة وصناعة وتجارة، تغطي المياه مساحات كبيرة من سطح الكوكب، لكن ما يحتاجه الإنسان منه عزيزا لا يناله بسهولة حتى في دول محاطة بالماء من كل جهاتها. يشكل الأمن المائي مع قرينه الأمن الغذائي جزءً أساسيا من الأمن القومي العربي، لكنه بقي دائما مكشوفا، ومعرضا للمخاطر، حتى أن أكثر الدول العربية تُصنف بإنها ترزح تحت خط الفقر المائي، أمّا أهم أسباب ذلك فيعود لكون أبرز موارد المياه وأهم أنهار العرب لا تقع السيادة المطلقة عليها لهم، بل إن ذلك يرتبط بعوامل خارجية قادمة من وراء الحدود. يُعد نهر النيل الأطول في العالم (6950 كم)، ويمر ببلدين عربيين هما مصر والسودان فيهما من السكان ما يزيد عن ثلث العرب، وطالما رددنّا أن مصر هبة النيل، ويُصنف النهر بأنه دولي تتشارك السيادة عليه (11) من الدول، واليوم ينشب نزاع بين دول المصب ودول المنبع حول استغلال مياهه، وتثور أزمة حادة بين مصر وإثيوبيا بسبب ما تنسبه الأولى للثانية بالإخلال بعدالة الاستغلال غير المنصف، والتعنت في ادعاء حقها في استخدام مياه النيل الأزرق برؤيتها الخاصة، حيث بنت أديس أبابا أكبر سد في افريقيا، وعاشر سد على مستوى العالم، قرب الحدود الإثيوبية السودانية وهو سد النهضة. إن أزمة السد فتحت الباب على مصراعيه أمام كل الاحتمالات بين الطرفين، وربما كانت القواعد العامة في القانون الدولي، أو الاتفاقيات الثنائية، أو حتى الوساطات بين الجانبين قاصرة عن معالجة الأزمة، ولكن التصريحات المتشددة أو التهديدات لن تحل المشكلة، خاصة أن الجانب المصري يعاني المشكلات في الداخل والخارج، ولن يغامر النظام في أي اتجاه بما يمكن أن يقصر عمره في البقاء، حيث يعد ذلك أسمى الغايات، بغض النظر عن الأمن المائي أو القومي، ولم يكن من الحكمة مناقشة الحرب على إثيوبيا علنا على الهواء، لكن هل يعود آبي أحمد “رجل السلام” الى صوابه؟، أو يلتزم على الأقل بقسمه الغليظ!. ما بين النهرين، دجلة (1900كم) والفرات (2940كم) نهضت أعظم الحضارات، ممثلة بمملكتي بابل وأشور على شواطئهما، لكن الاختلاف بين الطرف العربي (سوريا والعراق) من جانب والطرف التركي من جانب أخر حول مجراهما صنع المتاعب للناس، كان النهران يوما عثمانيين منبعا ومصبا ضمن الإمبراطورية العثمانية، ومنذ الحرب العالمية الأولى (1914) تحولا نهرين دوليين، أي أنهما باتا يعبران حدود دولة إلى دول أخرى، وإثر ذلك زادت الشكوى والمشاكل بين دولة المنبع (تركيا) ودولة العبور (سوريا) ودولة المصب (العراق)، واشتكى الطرفان العربيان بأن دولة المنبع تتصرف خاصة فيما يتعلق ببناء السدود دون الالتفات لمصالح الأطراف الأخرى، مما يؤثر في حياة ما يقارب (60) مليون عربي. أول أزمة مائية واجهها العرب في عصرهم الحاضر كانت بعد قيام دولة إسرائيل في قلب الأمة في فلسطين (1948)، وكانت الأطماع الصهيونية في الأرض العربية لا تتغافل عن مسألة الماء كعامل حاسم في النهضة والحياة، لذلك عملت فورا على التخطيط لاستثمار موارد المياه في محيطها، وكان نهر الأردن (251 كم) مطمعا أساسيا لها، حيث ينبع من جبل الشيخ ويصب في البحر الميت مرورا ببحيرتي الحولة وطبريا، لذلك فكرت في الحال بتحويل بحيرة طبريا اليها، عُقدت قمة عربية (1963) كان من ضمن جدول اعمالها تحويل أهم روافد نهر الأردن الحاصباني وبانياس، حتى لا تستفيد إسرائيل من النهر والبحيرة، لكن إسرائيل نفذت والعرب اختلفوا. في اتفاقية وادي عربة (1994) كان الماء محورا أساسيا تم التفاوض حوله، وتبادل المسئولون الأردنيون الملاسنات حوله، ففي الوقت الذي قال من شارك في صنع الاتفاق أن الأردن حصل على حقوقه، كان هناك خبراء مائيون أخرون يشككون بذلك، عموما فإن إسرائيل لم تلتزم بأية اتفاقية بشكل تام مع كل العرب وفي شتى المجالات. تبقى مشكلة الأمن المائي العربي قائمة أبدا، نسبةً لأمرين؛ ذكرت أحدهما سابقا، وهو السيادة المقيّدة على مواردهم القادمة من وراء الحدود أو المشتركة، والثاني هو أن الاتفاق بين الدول على الماء غالبا ما يرتبط بالسياسة وعامل القوة الذي يفتقده العرب، نتيجة الفرقة والتناحر البيني، لذلك لن تُحل مشاكلنا المائية بالعنجهية، بل بما تتطلبه خطورة الموضوع من صبر وحكمة، وحسن إدارة، وسياسة حياة الناس بالرشد. الدوحة – قطر