في كتابه الأوبئة والتاريخ يدفع مؤلفه شلدون واتس بالربط بين الأوبئة والمرض من جهة، والقوى الإمبريالية من جهة أخرى، وكيف أن القوى الاستعمارية الغاشمة ساهمت في نشر الأوبئة في العالم القديم في آسيا وأفريقيا من خلال ممارسات اختلط فيها العلمي بالسياسي والعنصري، حيث اهتمت تلك القوى بتوسيع دوائر المصالح، واستغلال الموارد على حساب صحة وحياة الشعوب، كما ويُعطينا فكرة عن سبعة من الأمراض حصدت ملايين الأرواح من البشر، لكن كان لها كبير الأثر من خلال التعامل معها في تطور الخبرة البشرية، وكذلك الإجراءات الطبية من وقاية وعلاج. كما أن الكتاب يتعرض لنشوء علم الأوبئة الذي يهتم بدراسة الحالات الجماعية للمرض، فكل وباءٍ يصيب أعدادا كبيرة من الناس هو بالضرورة مُعدٍ، لكن ليس كل مرض معدٍ يُعدّ وباءً، لكن ما يثير الدهشة حقاً أن نشوء هذا العلم كان قبل التعرف على مسببات المرض الحقيقية من الكائنات الدقيقة بعدة قرون، حيث أن هذه الكائنات تم التعرف عليها في القرن التاسع عشر على يد الألماني روبرت كوخ، وسبق ذلك نشوء علم الاوبئة على ايدي العديد من العلماء العرب والمسلمين، كما يعترف بذلك مؤرخو الطب من الأوروبيين المنصفين، لكنّ المؤلف اختار أن يتجاهل جهودهم في هذا المجال، وكان انتقائيا في ذكر التطورات التي أوصلت إلى ما سُمي حينها بـ “اختراع مقاومة المرض” وكأن ذلك حدث فجأة ودون مقدمات. عاش روبرت كوخ قبل (110) سنة، وقد اكتشف البكتيريا المسببة لبعض الأمراض مثل السل والجمرة الخبيثة، وقد سطع نجمه في أوروبا، وكان مستشارا لحكومته في الداخل والخارج وغيرها من الحكومات الأوروبية، وحصل على جائزة نوبل (1905)، لكن هناك فصلا لا إنسانيا في حياته لم يُشر اليه كثيرا، وهو أن مسعاه في البحث كان بهدف توطيد الاستعمار خاصة في أفريقيا التي كانت تغص بالأمراض، مثل مرض النوم، والملاريا، بل أنه في تجاربه على الشعوب المَستعمرة لم يكن يهتم بقواعد الرعاية والوقاية، فاختلطت أغراض البحث العلمي بدوافع الهيمنة. يقع الكتاب في سبعة فصول، كل فصل يتحدث عن واحد من قائمة الأمراض السبعة التي أقلقت البشرية، لما يقترب من ستة قرون، وهي الطاعون، الجذام، الجدري، الكوليرا، الملاريا، الحمى الصفراء، الجدري، وفي كل فصل يتحدث عن كيفية مواجهة كل منها في حينه، وما هي الإجراءات الوقائية أو الشفائية لكل منها التي قامت بها الشعوب القديمة في الصين والهند ومصر، وتلك الجديدة التي استعمرها الأوربيون مثل الأمريكيتين. كما هو معلوم اليوم، يتسبب في هذه الأمراض السبعة كائنات حية دقيقة، فالبكتيريا تتسبب في أمراض (الطاعون والجذام والزهري والكوليرا)، أمّا الفيروسات فتسبب أمراض (الجدري والحمى الصفراء)، مثلما أن الأوليات تتسبب في مرض (الملاريا). لكن كيف ظهر نمط الاستجابة لمقاومة هذه الامراض في المجتمعات القديمة التي كانت المعرفة العلمية فيها متأخرة والمعالجة الطبية لا زالت تتمسك بتفسيرات لا تمت للواقع بصلة؟ أكثر ما يثير الدهشة في الإجراءات التي تم التعامل بها هي إجراءات الحجر الصحي التي طبقته مدن الشمال الإيطالي (1450)، للحد من وباء الطاعون، قبل معرفة النظرية العامة للعدوى، وكم يثير الدهشة أن نرى ما يشبه التطابق بين تلك الإجراءات وما تقوم به السلطات الصحية المعاصرة! تقوم هذه الإجراءات على تحديد انتقال البشر، والتعامل مع حالات الوفاة، مثل الدفن في حُفرٍ خاصة تغطى بالجير الحي (الأسمنت)، والتخلص من متعلقاتهم الشخصية، وعزل مرضى الطاعون بالمستشفيات الخاصة بالأمراض المعدية، أمّا ما يُدهش حقا فهو سعة الأفق لما ينشأ عن الوباء من ارتدادات اجتماعية، لذلك طُبق نظام فرض الضرائب من قبل السلطات المحلية لحماية صحة الناس، ومن ثم تقديم المساعدات لمن تضررت حياتهم من الوباء. يحاول المؤلف أن يعزو ذلك إلى ظهور سلطات ذات إرادة قوية في تلك المدن الإيطالية، مكنّها من اتخاذ القرارات التي تنظر إلى صحة الناس على أنها شأن عام، يحتاج إلى التدخل عند الضرورة، حتى ولو كانت تتعارض مع العادات والأعراف والتقاليد الشعبية، أي أنه يعزو ذلك لفكرة قيام النظام، لكن يُرد عليه بأن فكرة النظام كانت قائمة من قبل، لكن ما حاول أن يتجاوزه الكاتب هو أن الطب العربي الذي كان في أوجه منذ القرن العاشر (الرازي وابن سينا)، كان قد عرف النظرية العامة للعدوى، ويكفي أن نعرض وجهة نظر الطبيب الاندلسي ابن الخطيب الذي عاصر الطاعون وقتذاك (1313-1379) دون تعليق، لمعرفة أن الطب العربي ومراكز الحضارة العربية في دمشق وبغداد والاندلس -آنذاك- كان لها كبير الأثر فيما وصلت اليه أوروبا بعد قرون لتطوير نظرية مقاومة المرض. يقول ابن الخطيب “فإن قيل كيف نُسّلم بدعوى العدوى، وقد رد الشرع بنفي ذلك، لقد ثبت وجدود العدوى بالتجربة والاستقراء والحس والمشاهدة والأخبار المتواردة، هذه هي مواد البرهان. ثم أنه غير خفي على من نظر في هذا الأمر أن من يخالط المصاب بهذا المرض يهلك، ويسلم من لا يخالطه، كذلك، فإن المرض يقع في الدار أو المحلة من ثوب أو آنية، فالقرط يتلف من علقه بإذنه ويبيد البيت بأسره، ومن البيت ينتقل المرض إلى المباشرين ثم إلى جيرانهم وأقاربهم وزائريهم حتى يتسع الخرق. وأمّا مدن السواحل فلا تسلم أيضا إن جاءها المرض عبر البحر عن طريق وافدٍ من مدينة شاع عنها خبر الوباء”. الدوحة – قطر