
د.فيفيان حنّا الشويري
يقيننا أنه لا يحلّ المثل، وهو من الموروث الشعبي الشفوي، محلّ الأرصاد الجوية لتسيير حركة الملاحة الجوية والبحرية وحتى التنظيم المروري، بل ما زال متصلاً اتصالاً وثيقاً بحياة المزارع الذي لم يعرف التقنيات العصرية ولا الصناعات تلك أصلاً؛ ويتصل المثل الشعبي بعالم الزراعة وبالبيئة الريفية الرعوية والصناعية الحرفية التراثية؛ كونه عاصر البشر وجايلهم وانبثق من مراقبتهم الطبيعة ومن ملاحظاتهم لعناصرها وحركتها وتضمّن حصيلة تجاربهم المعاشة والمكرّرة في دورة فصلية موسمية، فأضحى بمثابة الروزنامة اليومية والدورية وساعة لقياس الوقت ومعرّف عن التوقيت الزمني القديم.
“أيلول طرفه مبلول”، صدق المثل والمثل من حكمة الأقدمين. وإن معارفهم لتُجلّ وتُقدر ويبنى عليها لأنها عبارة عن تراكم خبرات اكتسبوها من خلال معاينة الطبيعة والاندماج بها لحدّ الانصهار، فتطوّرت لديهم ملكة الاستشعار كأي كائن حيّ في محيطه. وتباعاً، ورثتها الأجيال حتى وصلت إلينا… فكيف نهملها؟
المثل صحيح، وقال كلّ شيء “وخُلق قبل الانسان”… ويرتبط المثل الشعبي بحياة الناس، فيتفاوت معناه من مجتمع لآخر، ويرتبط بحياة الكائنات الحية بشكل ملازم أبداً، كحقيقة علمية لا تتبدّل، وما زلنا نضرب المثل بتصرّفات النحل والنمل والهررة والقطط والتي لم تغيّر سلوكها منذ الخلق البدئي، بل على العكس باتت تصرّفاتها الفطرية تتأثر بالتغيّر المناخي الحاصل في عالمنا اليوم، ومن أجل ذلك أطلقت صفارات الإنذار عالية جداً لتدارك تردّي الوضع البيئي وإلا… وليست الأرصاد العلمية من دلّت أن الحيوان والنبات بحالة خطر ومهدّد وجودها وربما انقراضها التام، بل العكس صحيح، إن تغيّر تصرّفات تلك الكائنات جعلت العلماء على بيّنة من حالة التغيير الخطيرة المستجدة والتي تطال الطبيعة بشكل حرج.
والعلم هو استمرارية المراقبة الحثيثة للطبيعة وتراكم تجارب الأقدمين كالقول إن هطول الأمطار المبكرة تبشّر بموسم مطري جيد (على رأي الفلاح)؛ والغيث من الغوث ولا يحتاج لصلاة استسقاء… فهل يبالي الفلاح بتوقعات المنجّمين، أم وحده المتغرّب عن محيطه قد فقد البوصلة؟
المتداول- المكرّر – الشائع
يردّد على مسامعنا عشرات المرّات في اليوم:
طقس عاطل أجواء سيئة، جوّ متجهم، أحوال جوية قاتمة (Mauvais temps, beau temps)
تستعمل التعابير بهذا الشكل المكرّر ومنذ مقاعد الدراسة وتترسّخ في ذهن النشأ:
الربيع مشرق وحياة وقيامة … الخريف قاتم وشيخوخة وترهل وسقوط… الشتاء موت الطبيعة أو نومها….
السماء ملبدة بالغيوم السوداء
الأعاصير المدمّرة
العاصفة العاتية
الجو مكفهر
الطقس عاطل؛ الأجواء سيئة عبارات تدميرية للنفس كلمات مثل : كوارث؛ جائحة متصاعدة، متحوّلة، ما يكاد يخمدها العلم حتى يؤجّجها الإعلام؛ أوبئة، نيازك ضالة تهدّد المدن، صواريخ ومركبات متفجّرة تهدد بالوقوع على الرؤوس، أحجار تائهة تتحدّى الجاذبية ويترّقب سقوطها لا يعرف أين … فاحتار الإعلام ما يسوّق هوليوودياً لإثارة الهلع والقلق. في حين أن الخطر من سقوط السقف على رأس سكان بيت قديم لهو أضعاف ما يروّج له من ورائيات تقودها الأشباح، وعلماً أن الخطر الأكبر مصدره الأفعال البشرية المؤذية المباشرة.
حتى وباء “كوفيد 19” عرفته البشرية مئات المرات في التاريخ وما كان ليكترث له أحد لولا الوسائل المعاصرة لنقل الأخبار سريعاً وبثانية قبل أن تتسنى فرصة تكذيبها.
فهل هذه الاسقاطات النفسية في محلها أم أنها اعتباطية، أو أنها تخدم غايات؟
ماذا يريد الإعلام البيئي؟ ما غايته؟
دور الإعلام البيئي
يطالعني تشبيه دقيق: فكما أنه لا يمكننا أن نستخدم مادة ما إلا بتحديدها وأوطرتها ( select -selection) فكذلك لن يصيب نصّنا إلا إذا اخترنا بعناية المفردات والمصطلحات ومعانيها ونزلت في أماكنها الصحيحة. مثلاً تعميم كلمة “كمّامة” والتي أحالت البشر فعلاً لقطعان مكمومي الأفواه؛ وأبى الإعلام العربي عدم استعمالها، بينما الأصح لغوياً وأدبياً (اللثام) و (القناع).
إذن، هل الإعلام لا يدري ما يفعل ومدى أثر تعبيره السلبي وفحواه المدمّر لنفسية الناس، ذلك الإعلام “البومي” و”الغرابي”؟ وها أنا بدوري، ومن حيث لا أقصد أو حتى تعمّداً، أتفوّه بمصطلحين من صميم التداول العامي الشعبي الذي دأب على الإشارة الى هذين المخلوقين (البومة والغراب) بالسلبية، فوصف هذين الطائرين بالشؤم؛ وقد ارتبطا في الذهنية الشعبية بسوء الطالع ( طائر البين) … وهكذا تتراكم المدلولات على العبارات المتوارثة على أخطائها ونردّدها لأنها شائعة ودخلت في صميم الكلام وحتى نمط التفكير.
فأين الإعلامي البيئي منها؟ هل هو ناقل شعبي أم مفكّر عالم؟ وهل التفكير العلمي يدخل في صلب اهتماماته أو منهج اختصاصه؟ هنا الإشكالية الكبرى.
عندما أقول صحافي بيئي أشير الى اختصاص، أي أنني أخصّص وأستخلص الجزء من الكلّ؛ هو صحافي مختص بالبيئة يعمل في ميدان الكتابة الصحفية، وليس صحفياً بالمطلق، ما يجعله مختصاً بالبيئة أي عارف بها وبالتالي بمضامينها ومفرداتها ومصطلحاتها. وهو بمثابة مرجع يُستند اليه بثقة.
في الحقيقة، يستفاد تجارياً وربحياً من رفع وتيرة التهويل في كلّ شيء ومن حجم وكمّ الإعلان الأسود لتظل الشركات تستغل الشعب، فيدوم ربحها وتطول مدد الاستغلال، وهذا ما نراه علناً حين يهرع الناس الى الاستهلاك بالشكل الجنوني، تداركاً وتحسّباً، فيهلكون نفسياً ومادياً قبل هلاكهم مناخياً؛ يكفي أن تلفظ في النشرات الجوية “عاصفة قادمة” (وتعطى اسماً مدللاً أيضاً، وهيّن الحفظ ) حتى تفرغ المحلات التجارية بغضون ساعات. يساهم في ذلك أبواق التنبؤ الجوي والتنبؤ الحياتي والتنجيم والشعوذة العصرية والتي تعلق في ذيلها الملايين تعلقهم بالأبراج ومن يبرّجون.
وطالما الإعلام المأجور لن يسكت ولن يستكين، فالحلّ ألا يدير الناس أذانهم ولا يبالون لما يسوّق، بل عليهم أن يتصرّفوا عكس ما يروّج فيرتاحون، ولكن هيهات…! فنحن في عصر الاستهلاك والجهل المعرفي التام ويتحكّم بتوجيه تصرّفنا جماعياً الإعلام والإعلان!
أيها المواطن انظر حولك هل ترى وتيرة الحياة ضاجة وصاخبة وعادية؟ قارن بينها وبين الترويج عن موت البلد، لتر حجم التهويل.
وكثرت بالمقابل شبكات تكذيب الأخبار الملفقة والمركّبة والمبالغة، ولكنها تبقى أقل فاعلية من شبكات الترويج التي فعلها كالنار في الهشيم.
هل راقب الناظر المشاهد الخداعة التهويلية لما يسمّونه كوارث طبيعية؟ إن المدقّق يكتشف أن المُخرج يأخذ اللقطات الأكثر قوة ويدمجها في عملية مونتاج بارعة، فتخرج على شكل مروّع وتترك أثراً رهيباً على النفوس الضعيفة بغاية الجذب الإعلامي والسبق الصحفي وكسب الأعداد المشاهدة. والميل الى الخداع أصبح سمة حتى من دون هدف، فقط للتشويق والتشويه وكسب اعداد المتابعين، فالكون اليوم عبارة عن عداد…وأرقام…
“أصبح التهويل والتشويق والأخبار الزائفة سمة متواجدة بكثرة على صفحات الإنترنت، وللأسف، نضطر للتدقيق مئات المرات قبل تبني أي خبر” على حدّ قول صديقة إعلامية بيئية صادقة ونزيهة.
ونلاحظ أن حجم التشكيك بات متعاظماً وحتى الخبر اليقين لم يعد يصدّق، فبرامج مثل “صدق أو لا تصدق” و”غرائب العالم” تبدو تافهة أمام أهوال اللعب الفوتوشوبي اليوم. إذ لا بدّ من المبالغة والتضخيم حتى يضمن المخرج أن المشاهد سيصل الى ما يريد له من إثارة وغسل دماغ، فكله مركب من مثل ظاهرة المبالغات بالظواهر الفلكية وأحجام الأقمار والشمس والكواكب والمجرّات. والعلم إلى اليوم نقطة في بحر الخليقة والكون ما زال ذلك المجهول، ورغم ذلك يدّعي الجاهلون معرفة أسراره وخذ على تنبؤات وتوقعات وما أقل القراءات!
ثمّة من سوق أن “الكوفيد 19” مفتعل لتخليص الأرض من التلوث من جرّاء توقّف المعامل وحركة الطيران والسيارات والتنقل… وإذ نقرأ مباشرة أن التلوث ضرب رقماً غير مسبوق وأن الاحتباس الحراري بات يهدّد القطبين الى غير رجعة ومن سخرية السطحية أن الكثيرين من مناصري البيئية اعتبروا اجتياح الحيوانات للمدن أبان الحجر الشديدعاملاً إيجابياً، فأيها البشر فلتخلوا أماكنكم للحيوان ولتكمل الحضارة مسيرتها…!
وضاعت الحقيقة في عالم الكذب السياسي والتلاعب والاستخفاف بالعقول، وبفضل الأجهزة الذكية وتطبيقاتها الفائقة التقنية، يجري الربط الذكي بين الصورة والنص لدرجة تصديق الأحداث بالمطلق.
استيلاء الشركات على قمة الأمم المتحدة للأغذية
(آفاق بيئية : صوفيا مونسالف ( 23 أيلول 2021 )
“مؤسف هذا التخاذل من قبل دول العالم بترك القرار للجهات المستفيدة على شاكلة شركات المنفعة الفردية والاستغلال، وأصبح القرار بيد من يتحّكم بلقمة عيش البشر مع استيلائه على الأرض ومواردها وهو يضيّق الخناق أكثر وأكثر حول رقاب المستضعفين والمستعبدين، ثم يقولون حقوق الانسان بعيش كريم على أرضه…مهزلة آخر زمن.
ولأن المحدّث بالسوء كفاعله
يتداول الصحفيون البيئيون في الكون هذه الساعة كلام التحذير من التغيّر المناخي الخطير والمتفاقم بشكل غير مسبوق والكارثة المناخية المتسارعة لكلّ من “بايدن” رئيس العالم والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو “غوتيريش” المؤتمن على العالم؛ (وهما النقيضان المتفقان)؛ ويرددون من ورائهما أن ارتفاع درجة الحرارة في العالم بأكثر من 1.5 درجة سيليزية سيؤدي إلى كارثة، وذلك من خلال تصريحهما بعد مؤتمر المناخ الأخير، فعرف الكون أن “العالم يتجه نحو كارثة، وهي ارتفاع درجة الحرارة بـ 2.7 درجة بدلاً من الـ 1.5 درجة، أي الحدّ الذي اتفق عليه الجميع”، وأنه يجب أن نقلص انبعاث غازات الاحتباس الحراري بنسبة 45% بحلول 2030؛ .وأنه “في هذا الحال سيكون من الممكن تحقيق الحياد الكربوني بحلول منتصف القرن”؛ وأعرب “غوتيريش” عن قلقه، مشيراً إلى أن دول العالم تتجه إلى زيادة انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بنسبة 16% بحلول 2030، مقارنة بمستويات عام 2010. ودعا لرصد” 100 مليار دولار سنوياً لاتخاذ الإجراءات لمحاربة التغيّرات المناخية في الدول النامية، التي تعتبر مسؤولة عن 80% من انبعاث غازات الاحتباس الحراري.” وأكد أن “هناك توافقاً حول أن الاجتماع المقبل لدول مجموعة العشرين سيكون مهمّاً للغاية بالنسبة لنجاح الاتفاقية الإطارية للأمم المتحدة حول تغير المناخ.”… (الثلاثاء21، سبتمبر-أيلول 2021)
يستوقفني هذا التحوّل المريع الذي قلب المعادلات والمقاييس رأساً على عقب، فمن سنين قليلة مضت صدر القرار الأممي في حق الدول الصناعية الكبرى كونها المسؤولة عن التلوث البيئي وأنها تشتري حق التلوث من الدول الفقيرة والنامية والتي لا تعرف التصنيع الملوث والمدمر للبيئة، وفي طليعة الملوثين المشترين الولايات المتحدة الأميركية؛ وإذ نرى أنه مع جائحة كورونا الوبائية والناتجة عن الدول الصناعية الكبرى كسلاح وبائي شديد الفتك للضغط والترهيب بين تلك القوى ولإخضاع الشعوب كما هو حاصل اليوم، ترمى الطابة في ملعب الدول الفقيرة والنامية ووصفها بالفاشلة “بيئياً” وعليها الانصياع والركون الى الوصاية الدولية وإلا…!
بالمحصلة: أجبرت الشعوب على التخلّي عن معارفها الحياتية وحوّلت الى مستهلكة ودول فاشلة تعيث فيها الفوضى الخلاقة فساداً على فساد؛ وتعمّم الفوضى الخلاقة حتى على الدول الأكثر تطوراً لإخضاعها؛ وحمّل الأضعف وزر التلوث وتبعاته وحتى أنه المسؤول عن انتشار الأوبئة وعليه الانصياع لأوامر الأقوى للحدّ من مخاطرها؛ وما فتيء الإعلام بوقاً مردّداً ليس إلا، يجلد الضحية ويبرّيء الجلاّد من دون وعي ولا ادراك وربما ليس تعمّداً، بل جهلاً، فمتى الصحوة؟ ومتى تستوي المصطلحات وتوضع النقاط على الحروف؟
دعوني أختم بهذه “النهفة” كما يقال والتي انتشرت على الصفحات اليومية لأجهزتنا الحاملة الكمّ المتعاظم من الأخبار والنهفات والنكات:
عقّب أحد الظرفاء على كلام وزير الدولة لشؤون الإعلام الأردني، للإعلامين: “انشروا الأمل والإيجابية عند تداول الأخبار” هكذا: “خبر عاجل: تحت ضوء القمر والنجوم اللامعة وصوت الناي، على شاطيء البحر الهاديء والنسيم العليل ارتفعت أسعار المحروقات…تمام هيك؟”
الدكتورة فيفيان حنّا الشويري
أستاذة الآثار والحضارات واللغات القديمة في الجامعة اللبنانية
vivianechouery2@hotmail.com