د. عبير الرحباني
الاستعمار الالكتروني
بقلم :د. عبير الرحباني
إذا كان ‘مارشال ماكلوهان’ قد تنبأ قي نظريته (القرية الكونية) في خمسينيات القرن الماضي بان العالم سيتحول الى قرية كونية، فأني ارى بان عالم اليوم لم يعد قرية كونية فحسب بل تحول ليصبح ‘غرفة كونية’، وذلك من خلال تغول العولمة التي مهدت الطريق الى الاستعمار الالكتروني.
فبعد ان غمرت قلوب الشعوب العربية فرحة الجلاء حين تخلصت من استعمار العثمانيين الذي استمر حوالى 400 عام، وتلاه الاستعمار الاجنبي، لم يخطر ببال الدول والشعوب بان هناك استعمارا سوف يأتينا في يوم من الايام بحلة جديدة وبأثواب مطرزة ومزركشة عن ذي قبل.
فمن استعمار ديني الى استعمار عسكري الى استعمار تجاري الى استعمار الكتروني يشهده عصرنا الحالي، فبينما كان يسعى الاستعمار التجاري للبحث عن العمالة الرخيصة كان الاستعمار الالكتروني يسعى وما يزال للتأثير على العقول بخاصة الضعيفة من خلال التأثير في الاتجاهات والثقافات والرغبات والسلوكيات وانماط الحياة المختلفة.
ان هذا الاستعمار لم يفكر حينما طرد من الارض وعاد الينا من الفضاء ان يحمل معه صواريخ او معدات او اي آلات للحرب، فهو لم يأت بجنود احتلال ولم يأتينا من اي ارض، بل ان هذا الاستعمار الخطير سعى للتفكير بطرق شيطانية خبيثة في كيفية الرجعة الينا. فجاء الينا من الفضاء يحمل معه اسلحة جديدة كالعولمة، والتكنولوجيا بكل اشكالها.
ولم يأت هذا الاستعمار ومعه جنود احتلال بل قام بتجنيد الاعلام وبخاصة معظم الفضائيات العربية لصالحه ولخدمة اهدافه. ولم يأت هذا النوع من الاستعمار ليغزو ارض دولة ما، بل جاء ليغزو العقول البشرية ويؤثر عليها في كل مجالات الحياة وعلى الاصعدة كافة.
ولا ننكر بان ‘الاستعمار الالكتروني’ الذي اتانا من الفضاء له ايجابياته، حيث ساعدنا على الاتصال والتواصل مع الآخرين بكل سهولة ويسر، كما افاد الكثيرون في استخدام المعرفة ونقلها من شخص لاخر ومن دولة لاخرى ووفر علينا الوقت والجهد، واستكشاف الحقائق، كما ان استخدامه ساعد الاجهزة الامنية في سرعة الوصول الى الاحداث ومراقبتها وملاحقتها. لكنه في الوقت ذاته ادى بنا الى شلل دماغي وجسدي وفكري، وحاول طمس لغتنا وهويتنا وثقافتنا وحضارتنا، والغاء النسيج الاجتماعي، والقضاء على قيمنا ومبادئنا وسلوكياتنا ايضاً.
نعم انه الاستعمار الالكتروني الذي حولنا الى مغارات مهجورة وجمد طاقاتنا واحلامنا وابداعتنا. استعمار يحاول مع الوقت ان يحولنا الى تماثيل متبلدة الشعور ومستسلمة لكل شيء، استعمار اصاب اجسادنا وأضر بصحتنا، استعمار اصاب عقولنا واذهاننا، استعمار اصابنا بشلل دماغي وجسدي، استعمار جعلنا نشعر بالخوف والقلق والفراغ والوحدة برغم كل الاشياء المتوفرة من حولنا، استعمار يجعلنا نلهث لكي نصل لكننا لا نصل مهما وصلنا.
ان هذا الاستعمار الجديد وان جاز التعبير هو عصر ‘الشيطان’، نعم انه عصر الشيطان الذي بدأ يتحكم بالعقول وبخاصة العقول الضعيفة، واصبح من دون ارادة منا نخضع له ولاوامره ولكل جديد يحمله ويقدمه الينا من دون عناء ومن دون جهد.
نعم انه عصر الشيطان الذي استسلم له الكثيرون منا، وما زال الكثيرون على طريق الاستسلام له، حيث يقوم بتقديم كل الاغرات التكنولوجية المتعددة الاشكال ومختلفة الاحجام والالوان.
شيطان بات يتحكم بمادياتنا وعاداتنا وقيمنا وسلوكياتنا وانماط حياتنا، وحتى مشاعرنا اذ اصبحنا نسير خلفه ونطيع اوامره من دون تفكير بمدى خطورته علينا وعلى اجيالنا الحالية واجيال المستقبل. عصر شيطاني الكتروني يحاول بطرق خبيثة عملية غسل ادمغة فئات كبيرة من مجتمعنا بخاصة الشباب ليقودهم نحو العنف والتطرف ويولد لديهم نزعة الكراهية والحقد ويزرع في نفسوهم كل اشكال الشرور. ويجردهم من معاني الانسانية.
عصر شيطاني اعاق حركة تقدمنا الى الامام. عصر شيطاني قتل ابداعتنا وطاقتنا الانتاجية وحولنا الى آلة اتوماتيكية، والى مجتمعات اتكالية، واوقف عجلة النمو في عقولنا وداخل مجتمعاتنا فأصبحنا شعوباً مستهلكة مستسلمة ضعيفة امام كل ما يقدم الينا على طبق من فضة.
فكل الاشياء اصبحت ملوثة من حولنا، فالواقع الذي نعيشه اكبر من قدرتنا على استقباله واستيعابه، واقع اختلط فيه الحابل بالنابل وخذلتنا الكثير من العلاقات، والكثير من المواقع الالكترونية، والكثير من وسائل الاعلام، والكثير من السياسيين، والكثير من رجال الدين، والكثير من رجال الادب واصبحنا نبحث عن الحقائق عبر الاجهزة الالكترونية وعبر شبكات التواصل الاجتماعي ونحلل ونعلل كما نريد، وقللنا البحث في داخل انفسنا وداخل اعماقنا.
واصبح مجتمعنا يشعر ببرود مرير امسى يتسرب الينا من عالم اصبحت انفاسه متوقفة على اجهزة الكترونية واسلاك الكترونية واصبحت علاقتنا وحياتنا متوقفة على أزرار الكترونية.
ولا ننكر أن الاستعمارات التقليدية التي مرت بها دولنا العربية تحررت بقوة السلاح والجهاد والتضحيات الكبيرة. ولكن كيف لنا ان نتحرر اليوم من هذا الاستعمار الخطير على امتنا؟ الذي بات يسيطر على حياتنا بالكامل؟. وكيف لنا ان نتحرر منه ونحن اليوم نذيب انفسنا في محلول من العالمية ولا ندرك سموم هذا المحلول وخطورة ذوبانه فينا؟