د. علي منعم القضاة
ألا حيّها عجلون من بُرْدَةِ الهوى أسامرها بدراً؛ فترسمني شمســا
شذرات عجلونية (43)
القراء الأعزاء أسعد الله أوقاتكم بكل الخير، حيث كُنتُم، وحيث بِنتُم، نتذاكر سوياً في شذراتي العجلونية، ففي كل شذرة منها فكرة في شأن ذي شأن، ننطلق من عجلون العنب والذهب، عجلون الحب والعتب، لنطوف العالم بشذراتنا، والتي سنبتعد بها هذه المرة عن الساسة وعن السياسة، دعونا نحلم أن يكون القادم أجمل، راجياً أن تروق لكم.
فلتكن أيامنا القادمة أجمل
فلعلّ الحديث عن المستقبل، في قضايا البيئة أكثر ضرورة وإلحاحاً في الوقت الحالي؛ لأن مستقبل بيئتنا إنما هو مستقبل أبنائنا وأحفادنا، وهو ناتج عن تصرفاتنا فيها الآن، وكيفية استغلالنا لها. إنه المستقبل الذي سيعيش فيه أبناؤنا، وهو من صنع أيدينا الآن؛ وسيقول لسان حالهم، وهم يذكروننا، ويعانون من التلوث البيئي الذي ورّثناه لهم: “هذا ما جناه أبي عليّ”.
إن هذا المستقبل ليس رجماً بالغيب؛ فهو نتيجة اتجاهات وقوى وتقنيات أساسية موجودة الآن، ولعل تَبَصُرَنَا فيها، ومعرفتنا بها يعطينا فهماً أكثر للحقائق، وإمكانية لاستشراف الاتجاهات في المدى الطويل، فهل يمكن لنا الوفاء باحتياجات المستقبل؟
لطالما كانت الأخطار البيئية تهدد حياة الجنس البشري ورفاهيته؛ ولكن الإنسان هو الذي أصبح يشكل خطراً على البيئة المحيطة به، وعلى مكوناتها وسلامتها، فالأنشطة البشرية مستمرة في تغيير بنية البيئة العالمية، بحيث يصعب تصور الحالة الأصلية للكثير من الأماكن، ويصعب بالتأكيد استعادتها إلى وضعها الطبيعي. والسؤال الذي يطرح نفسه أمام كل المهتمين، والمسؤولين: هل من الممكن ترشيد السلوك البيئي في تعامل الإنسان مع محيطه؟ وتحفيزه للمشاركة بمشروعات حماية البيئة والمحافظة على الموارد، وأن تأخذ كل الشعوب حقوقها في بيئة نظيفة وموارد متجددة وغير مستنزفة؟
ثقافة الاهتمام بالبيئة
إن الاهتمام بالبيئة يعني الاهتمام بالمستقبل، واهتمام بالإنسان بحد ذاته في الحاضر والمستقبل. ولكن مما يؤسف له أن الغالبية الساحقة من الناس لا تبدي اهتماماً حقيقياً بالبيئة من حولهم، وهم غافلون عن الأخطار الحقيقية المحدقة بهم من كل جانب، إذ يقتصر الاهتمام الحالي بالبيئة على المنظمات غير الحكومية، والجهات ذات الاختصاص، ولا يصل مستوى الاهتمام إلى إشراك كل شرائح المجتمع بالدرجة نفسها؛ وهو اهتمام لا يرقى لدى عامة الناس إلى المستوى المطلوب، الاهتمام بالبيئة يجب أن يكون ثقافة مجتمعية، وحسٌ شخصي لدى كل فرد فينا.
يستند الاهتمام بقضايا البيئة إلى تبلور حس الفرد بإنسانيته، وبانتمائه إلى البيئة التي يعيش فيها، وإيمانه بأن هذه الأرض وحدة متكاملة، يؤثر كل جزء منها بباقي الأجزاء ويتأثر بها. فقد رغبتُ أن تكون شذرتي هذه خطوة في بناء المعرفة البيئية، ومساهمة في نشر الوعي البيئي، اهتماماً مني بالبيئة أولاً، وللمحافظة عليها نظيفة مصانة ثانياً، وإسهاما في تكون حس بيئي لدى الناس، لتتسع دائرة الوعي البيئي خارج فئة المختصين ثالثاً. إذ يُعد الاهتمام بالبيئة اهتماماً بالبشرية جمعاء، واهتماماً بالإنسان الذي تترتب على ممارساته الكثير من الآثار على البيئة ومكوناتها.
بين الاقتصاد البيئة
ليس بمقدور أحد منع الأخطار المحدقة بالبيئة منعاً كلياً. خصوصاً تلك الأخطار التي تنجم عن الصناعة، ولا نقصد من ذلك أبداً التوقف عن التصنيع بشكل نهائي، فهو أمر مستحيل، وهو ليس ما نطالب به المجتمع الدولي. إذا كان الخيار الأوحد المفروض علينا هو الاختيار بين الاقتصاد والبيئة، فإنها طريقة خاطئة في التفكير، وفي التعامل مع الأشياء؛ لأن الاختيار الصحيح يجعلنا نقوم بتشجيع الصناعات البيئية، ولكن الصناعات صديقة البيئة، وفي كل المجالات، بحيث نخفف من حدة التلوث، ومن أمثلتها: زيادة استخدام الكهرباء؛ لأن استخدامها يخفف من التلوث البيئي.
تلعب وسائل النقل دوراً مهماً في اقتصاديات أي بلد، وهي تستحوذ على ثلث إجمالي الاستهلاك للطاقة في أي دولة، وهي كذلك من عناصر التنمية الاجتماعية والاقتصادية. ولكنها تعدُ وسائل النقل من الملوثات الخطيرة في المجتمع، فإضافة إلى ما تحدثه من ضجيج وضوضاء؛ فإنها تطلق كميات هائلة من الغازات السامة في الجو لتلوث الهواء الذي نتنفس من عوادمها. ولذلك فإن استخدام السيارات الكهربائية، صديقة البيئة، والقطارات الكهربائية، سيحد بكل تأكيد من التلوث الناجم عن وسائل المواصلات في العالم أجمع.
المطلوب منا الآن هو الحد من الملوثات، واستثمار الطبيعة بطريقة توازن بين حاجات الإنسان الضرورية وحاجات التنمية من جهة، وبين الموارد الطبيعية المتوفرة للمحافظة على توازن البيئة التي خلقها الله فيها، ضمن إطار من العقلانية والإنسانية والتصرف الحكيم.
فلنفكر عالميا ولنعمل محلياً
يفرض علينا الوضع البيئي المتردي سلوكاً أخلاقياً جديداً، وهو ما يمكن أن نسميه بالعالمية، والعولمة الاقتصادية والإعلامية تفرض علينا طرح المفهوم نفسه في المجالات البيئية. كما تتطلب منا المحافظة على موارد الطبيعة وعياً بيئياً، وإدارة سليمة للموارد، وتخطيطاً محكماً، وأن نستغل البيئة الاستغلال الأمثل بكل عقلانية وإنسانية، بعيداً عن الجور والتعسف على بيئتنا. فالحاجة ماسة إلى تنسيق الجهود للعمل على حماية البيئة في العالم أجمع، وفي الدول النامية على وجه الخصوص. ولا يمكن لمسألة البيئة أن تقف على أرضية سليمة إلا بتظافر الجهود على المستويين العالمي والمحلي، الرسمي والشعبي. لذلك أصبح شعار المنادين بالحفاظ على البيئة (فَكّرْ عالمياً واعْمَلْ محلياً) للمحافظة على بيئة سليمة محلياً وعالمياً. إن زيادة الاهتمام بالشأن البيئي على الصعيد العالمي، ونشر الثقافة البيئية تعد أهم خطوات التغيير بالاتجاه الصحيح، وهي أن يعي الإنسان ما يقوم به، ولماذا يقوم به.