رمزي الغزوي
طالما رفع الذين سكنوا منتصف العقد الخامس يافطة تلوح في مهبّ فضاء محطات العمر ومطاراته: (يفكر الرجلُ بالحب كثيراً ومليّاً بعد الخامسة والأربعين. نفسهُ خضراءُ طريةٌ، كحبّة ندى حطت على ورقة عنب. يدهُ شجرةُ ورد بلا شوك قاس، وروحهُ يمامة برية).
وكلما هفهفت كلماتهم في مفارق السنوات حين تباغتني بعدادها؛ أراني أعود لنفسي فتهامسني ألا أصدقهم. لا يخدعنّك هؤلاء الكسالى بمجاز الكلمات وتأويلاتها. هم يحيون بمدارات أخرى لا تعنيك ولا ترضيك. لم تتشابه البدايات بينكم، ولن تتوحّد المآلات والنهايات. فقل لهم: من يتحدّث عن الحب لا يحب. ومن يدّعي طراوة النفس إلى اليباس آل أو سيؤول.
فيا أيها الطفل الخمسيني الذي أتعبني: لا تبرح عالمك الذي صنعته أنت، كما تريد وتشتهي. لا تخف من الخمسين فهي رقم في عداد يدور. أنت عشرة أطفال معاً كل واحد بخمس سنين يعمرها الشغب والدهشة وتعب السؤال. أنت شابان في الخامسة والعشرين دمجتهما روح العنفوان في قلبك الأحمر النامي. أنت شيخ مئوي شطره الزمن إلى صديقين متحاربين متحابين.
في سهرة مقهى قالت عرافة بعد أن غمز لها صديقٌ ستيني؛ كي تنال مني، وهي تمسك فنجاني: الرجل حين ينهي عقده الخامس يصير غصنا يابساً، حظاً عابساً، ووهجا ينوس كفانوس. حينها صمت فتابعت: الخمسون باب الشيخوخة، وسؤر كوؤس حامضة مرة. ساعتها انفجرت: تباً لبقايا فنجان تركته ليدك الراعشة أيتها الخرقاء، التي خدعني لون عينيها، ولولاهما لصفعتك. خذي دنانيرك وارحلي. الفناجين خرائط العجزة وأشباه المجانين.
وحين خلوت إلى قلبي قلت: لا تأخذ على بالك. الرجل في الخمسين ثمرٌ دان، وعمر ثان، عسلُ مصفٌى، نحلٌ شقيّ الشطحات، طويل الغيبات، مليئ الحواصل. الرجل الخمسيني شامة الوقت، بيرق العاشقين، آخر المهزومين في زحام الوهم، وطعان طواحين الهواء.
صديق يكبرني بخمس سنين أرسل لي مازحا أو شامتا: الخمسيني أخو الشيخوخة، وابن الأرجوحة. خاتم زوجته الضيق، وربيب طاعتها الأعمى. فبعثت إليه ضاحكاً: يا رفيق العكاز قل هذا عن نفسك. أنا عصفور لا يرقد في عشٍّ، ولا يسكن في غيمة، ولا ترضيه النهارات. روحي سماوات بعيدة تصير أراضي واسعة بنغمات. لكني في لحظات أطمر وجهي بكفيّ، وأنحب محشرجاً: ماذا أنجزت يا فتى؟ كيف عشت؟ ولماذا أخذت الحياة على محمل الجد؟.
قالوا لي حين وصلت الأربعين: الحياة تبدأ من هنا. عليك أن تعرف أن من دخل الأربعين بلا إنجاز لن ينجز. فمن (طبع طبع، ومن ربّع ربّع). وها أنا أدخل الخمسين بكامل قلبي قائلا لي: تعجبني دائرة الخمسين، فهي ككرتنا الأرضية بلا زوايا، لا مجال أن نختبئ عن شيء، حتى عن موت صغير. ولهذا قم واصل صنع الحياة ومواجهتها بالحياة، دون أن تأبه بالحمقى وفيالقهم.