جميل النمري
أول احتكاك مباشر لي مع صحيفة الدستور كان في أواخر الثمانينات عندما ذهبت لرئيس التحرير لنشر مقال لي لكنه اعتذر بأدب. كان ذلك قبل التحول الديمقراطي عام 1989 وكنت كسياسي معارض احاول فقط تمرير مقالات لي حيثما أمكن. هذا حتى دخلت الاعلام عام 91 احترافيا بعد التحول الديمقراطي ومن بوابة الصحافة الاسبوعية ثم اليومية. وذات مرة سألني صحفي في مقابلة اذاعية أيهما أحببت اكثر الاعلام التلفزيوني ام الصحفي اذ كنت الى جانب عمودي الصحفي اقدم برنامجا تلفزيونيا فقلت قطعا عمودي الصحفي اغلى وأثمن من برنامجي التلفزيوني. فالفرق بينهما هو الفرق بين الحفر في الصخر والرسم على الرمل. والحال انني لم اترك كتابة العمود الصحفي ابدا حتى اثناء النيابة. والغريب انه حتى مع ازمة الصحافة الورقية لم اشعر للحظة أن الكتابة مباشرة على وسائل التواصل والمنصّات الالكترونية يعوض العمود الصحفي في الصحيفة الورقية اليومية. والمقال وأنا ارسل المقال الى وسائل التواصل أو تتناقله بعض المواقع لكن لم اشعر ولم ارغب يوما الا ان يكون اصل المقال هو المنشور في الصحيفة اليومية واذا نشرت شيئا مباشرة على وسائل التواصل فأنا لا اشعر انه صحافة ولا يعتد به كمرجع وكأن خروجه على صدر الصحيفة وفي المكان المخصص للعمود هو شهادة اعتماد لقيمة المادة وللكاتب نفسه في زمن فاضت فيه وسائل التواصل بالكتابة كيفما اتفق بلا مسؤولية ولا خلفية ثقافية ومهنية في الكتابة الصحفية والسياسية.
من هذه الملاحظة الأخيرة اذهب لتأكيد الأهمية الحالية والدائمة للصحافة اليومية حتى لو تخلت ذات يوم عن النسخة الورقية وهناك صحف عريقة في العالم فعلت ذلك لكنها بقيت صحفا يومية معتبرة لها حضورها وخصوصيتها كمرجعية موثوقة بسلطانها وشخصيتها الاعتبارية وكتابها كرموز ومراجع في الرأي والتحليل والتقييم. و»الدستور» تمثل العراقة الصحفية بكل معانيها بما في ذلك كتابها ومنهم اعمدة شاهقة في التاريخ الصحفي – السياسي – الاجتماعي الأردني تعاقب العديد منهم على مواقع رئيسية في العمل العام من تأسيسها وحتى اليوم.
والدستور هي عميد الصحافة الأردنية بصفتها اليوم اقدم صحيفة اردنية وهي ولدت نتيجة اندماج صحيفتي المنار وفلسطين في آذار 1967 وانتقلت بعد حرب حزيران واحتلال الضفة الغربية الى عمان التي كانت تطبع بها جريدة واحدة هي الاردن بينما كانت تطبع في القدس بقية الصحف كالدفاع والجهاد وهي وغيرها بالاجمال مشاريع صحفية فردية تقريبا. وكانت الدستور اول مشروع «مؤسسة « صحفية كبرى دشنت حقبة الصحافة الحديثة والكبيرة بمطابعها واجهزتها وعمالها وادارييها وصحفييها وبعضهم بدأ وشاخ مع الصحيفة أوتقاعد أو انتقل الى رحمة الله. وكانت الدستور ثالث ثلاثة مع الرأي ووكالة الأنباء تكون منهم الجسم الصحفي الاردني وشهدت كواليس وصراعات وتحالفات وانتخابات نقابة الصحفيين. واليوم نحتفي بالعيد الخامس والخمسين للدستور كأقدم صحيفة يومية موجودة أي كعميد الصحافة الأردنية و نتذكر بإعتزاز أعمدتها من كبار الصحفيين الذين صنعوا تاريخا هو جزء حميم من تاريخ هذا الوطن وهذه الدولة التي نعبر مئويتها الأولى. ويكفي هذا التاريخ وحده لبيان رمزية الصحيفة كمعلم من معالم الكينونة الوطنية وهي ليست كينونة جامدة بل متطورة تتقدم وتتحدث باستمرار وهو ما تفعله الدستور صحفيا بالتحديث ومواكبة الزمن والتكيف مع مقتضياته.