محمد العميشات
لم تكن انتهاكات حقوق الإنسان في السّودان وليدة السّاعة وإنّما بدأت منذ عقود؛ نتيجة الصّراعات والحروب الأهليّة التي عمّت السّودان؛ بسبب التّنافس على السّلطة من جانب، وعلى الموارد الطّبيعيّة والنّزاعات العرقيّة من جانب آخر، وأهمّ هذه الصّراعات هو صراع الجنوب الذي بدأ عام 1955م؛ أيْ قبل استقلال السّودان مطالبًا بالانفصال عن السّودان، واستمرّ هذا الصّراع حتّى عام 2005م، وانتهى بانفصال الجنوب واستقلاله عام 2005م؛ نتيجة الدّعم الخارجيّ وبمباركة أمميّة.
وهناك أيضا الحرب الأهليّة في دارفور، حيث اندلعت غرب السّودان عام 2003م بين الجماعات الانفصاليّة وحكومة السّودان، ونشب الصّراع في بداية الأمر بين القبائل ذات الأصول العربيّة (البدو) والقبائل ذات الأصول الأفريقيّة (المزارعين) نتيجة التّنافس على الموارد الطّبيعيّة، والتّعدي على الأراضي الزراعيّة؛ ممّا دفع حكومة السّودان إلى التّدخل لصالح طرف ضد آخر، ودعمت تنظيم (الجنجويد) الذي يعدّ الذّراع العسكريّ لحكومة السّودان، و أُطلق عليه لاحقًا اسم قوّات (الدّعم السّريع) وهذا ما تنفيه حكومة السّودان؛ لما ارتكبه هذا التّنظيم – وما يزال- من جرائم صُنّفت بجرائم حرب ضد السّكان المحليّين من أصول أخرى، حيث انتهى الأمر بتحويل ملف هذه القضيّة إلى المحكمة الجنائيّة الدّوليّة بقرار من مجلس الأمن الدوليّ، وأصدرت المحكمة عام 2009 م مذكّرات اعتقال بحقّ عدد من المسؤولين السّودانيّين على رأسهم الرّئيس السّابق عمر البشير.
كما وجد الصّراع في الشّرق؛ نتيجة الادّعاء بتهميش هذا الإقليم من حيث الإهمال في البنى التّحتية والتّعليم والصّحة والرّعاية الاجتماعيّة من قبل الحكومات المتعاقبة على السّودان، وفى عام 2006م وقّعت الحكومة السّودانيّة وثيقة مصالحة مع جبهة شرق السّودان التي تعدّ من أبرز الحركات هناك حيث اتّسمت هذه الاتّفاقيّة بالضّعف؛ نتيجة عدم التزام الطّرفين بمخرجاتها.
تعرّض السّودان إلى الأزمات الاقتصاديّة والماليّة؛ بسبب الصّراع على السّلطة بين العسكر
والسّلطة المدنيّة والحركات الثوريّة المدعومة من الدّاخل والخارج حيث أصبح الفساد السّمة الغالبة على المشهد السّودانيّ المتمثّل بظاهرة اختلاس الأموال الحكوميّة، والمحسوبيّة، واستغلال السّلطة، وبيع الأصول الثّابتة والمتحرّكة، واستغلال ثروات السّودان إلى مصالح زعامات عسكريّة وقبليّة وسياسيّة، وقد تجاوزت عشرات المليارات من الدّولارات من الموادّ الخام والمعادن النّفيسة وغيرها؛ مما جعل السّودان يتراجع على المؤشّر العالميّ للشّفافيّة والفساد بشكل كبير إلى المرتبة 172 بين 180 دولة عام 2018م، وفق مؤشّر مدركات الفساد الذي تعدّه منظّمة الشّفافيّة الدّوليّة.
أدّى هذا التّراجع نتيجة الفساد، وهدر المال العام، وسوء إدارة موارد الدّولة إلى تردّي الوضع الاقتصاديّ الذي أدّى إلى انهيار العملة الوطنيّة إلى مستويات لم يسبق لها مثيل، مما انعكس سلبًا على الخدمات الأساسيّة التي تشمل توفير المياه الصّالحة للشّرب، وتوفير مصادر الطّاقة، وكذلك السّكن والتّعليم والصّحة.
لم ينته المشهد السّودانيّ إلى هذا الحدّ بل اتّسم بعدم الاستقرار السّياسيّ والاقتصاديّ والتّخبُّط في إدارة شؤون الدّولة ومواردها، لاسيّما أنّ السّودان يعدّ من أغنى الدّول من حيث الثّروات الطّبيعيّة، ووفرة المياه والمساحات الشّاسعة من الأراضي الزّراعيّة الخصبة التي أصبحت مقصد الدّول الإقليميّة في استغلالها دون أن ينعكس ذلك إيجابًا على السّودان؛ نتيجة الفساد وتسليم مفاصل الدّولة على أساس الولاءات السّياسيّة، وليس الخبرة والاختصاص ممّا أدّى إلى ثورة شعبيّة؛ نظرًا لتردّي الأوضاع الاقتصاديّة، وغلاء المعيشة بسبب تدهور العملة إلى أدنى المستويات؛ ممّا رفع معدّل التّضخم إلى مستويات قياسيّة عجزت الدّولة أمامها عن توفير الحدّ الأدنى من الخدمات، وعلى المستويات كافة، ونتج عنها الإطاحة بنظام حكم البشير عام 2019م، حيث تولّى المجلس السّياديّ الوطنيّ الحكم برئاسة الفريق أول عبدالفتاح البرهان قائد الجيش السّودانيّ، ونائبه الفريق أول محمد حمدان دقلو الشهير ب(حميدتي) قائد ما يسمى قوّات الدّعم السّريع.
لم يكن المجلس السّياديّ بأفضل حال من النّظام السّابق، حيث ازداد الوضع الاقتصاديّ سوءًا، وبدأت مرحلة جديدة من التّنافس على السّلطة بين العسكر والحكم المدنيّ ممّا أدّى إلى انقلاب على السّلطة المدنيّة نتج عنه تنحية الحكومة الانتقاليّة برئاسة عبدالله الحمدوك عن السّلطة في أكتوبر 2021م، حيث تمّ اعتقاله مع آخرين، واعتُبر هذا الانقلاب انتهاكًا صارخًا للوثيقة الدّستوريّة التي تمّ الاتّفاق عليها بين المجلس السّياديّ الوطنيّ وقوى إعلان الحريّة والتّغيير؛ وبسبب كلّ ما يحدث في السودان من تغيّرات دراماتيكيّة على السّاحة السّياسيّة لم يتمخّض عنه أيّ تغيير يذكر في مجال حقوق الإنسان، لاسيما بعد الانقلاب الذي نفّذه الجيش في ابريل 2019 على نظام البشير، إلا أنّ انتهاكات حقوق الإنسان استمرّت، وتميّزت بالاستخدام المفرط للقوّة في قمع الحرّيّات من قبل الأجهزة الأمنيّة للدّولة ضدّ المتظاهرين والحركات الشّعبيّة والحزبيّة والنّقابيّة المطالبة بالحكم المدنيّ المستند على قانون انتخاب عادل بعيد عمن القبضة الأمنيّة التي اعتاد عليها السّودان منذ استقلاله، فقد تنوّعت الانتهاكات ما بين الاعتقال الإداريّ والسّجن دون ممارسة حقّ التّقاضي العادل والقتل والإخفاء القسريّ وبين تجميد الحقوق المدنيّة والسّياسيّة .
إن غياب المؤسّسات الدّستوريّة والمجالس التّشريعيّة وانعدام الحقوق المدنيّة والسياسيّة والحصانات التي أبقت عناصر الأجهزة الأمنيّة خارج دائرة المساءلة القانونيّة التي عزّزت من سياسة السّلطة المطلقة، أدّى إلى ترْك الباب مفتوحًا أمام الخيارات الأمنيّة في تكميم الأفواه، وقمع الحريّات،
وزاد الأمر سوءًا، حيث انعدم الأمن والأمان، وانتشرت الجريمة، وسلبت الملكيّات، فلم يزد المجلس التّشريعيّ والوطنيّ برئاسة الفريق أول عبد الفتاح البرهان الأمر إلّا سوءًا خصوصًا فيما يتعلّق بحقوق الإنسان.
إنّ التّحرّك العسكريّ لقوّات الدّعم السّريع مؤخرًا بقيادة الفريق أوّل محمّد حمدان دقلو الشّهير بـ«حميدتي» في العاصمة السّودانيّة – والتي فُسِّرت على أنّها محاولة انقلاب- أدّت إلى اندلاع صراع مسلّح بين الجيش وقوّات الدّعم السّريع، استخدمت فيها الأسلحة الثّقيلة بأنواعها والطّيران،
تسبّبت في قتل ودمار واسع لاسيّما أنّها تدار في المناطق الأكثر كثافة سكانيّة في السّودان؛ ممّا أدّى إلى مقتل المئات، وإصابة الآلاف من السّكان المدنيّين، ونزوح 2.5 مليون داخل السّودان، وقرابة المليون خارجه حسب تقارير منظّمات الإغاثة، ولم يقتصر الصّراع على القوّات المسلّحة للطّرفين بل تجاوز إلى استخدام المدنيّين – خاصّة الأطفال- في هذا الصّراع حيث اعتبرت السّودان من أكثر الدّول استخدامًا للأطفال في الصّراعات المسلّحة؛ مما دفع بالمنظّمات الدّوليّة الحقوقيّة إلى اعتبار ذلك انتهاكًا صارخًا لحقوق الطّفل.
إنّ ما يجري اليوم في السّودان من أحداث دمويّة لا تبشّر بانفراج قريب لهذا الأزمة؛ نتيجة عدم حسم الصّراع لصالح أحد الأطراف، واعتبار ما يحدث في السّودان على أنّه صراع بين ندّين، ووقوف المجتمع الدّوليّ على مسافة واحدة منهما، وتدخُّل أطراف خارجيّة ذات مصلحة في إبقاء السّودان في مستنقع الصّراعات المسلّحة زاد الموقف تعقيدًا؛ مما انعكس سلبًا على حقوق الإنسان، وعلى عمل منظّمات الإغاثة والإيواء التي تعرّضت إلى النّهب والحرق والقتل لعدد من موظفيها؛ مما جعلها عاجزة عن تقديم موادّ الإغاثة والرّعاية الصّحيّة اللازمة، وكذلك إغلاق العديد من المستشفيات والمراكز الطّبيّة في أنحاء السودان كافّة؛ نتيجة نقص الموادّ والمعدّات الطّبيّة الذي تسبّب -على سبيل المثال وليس الحصر- في موت معظم مرضى الكلى، وكذلك الحالات التي تحتاج إلى تدخٌّل طبيّ عاجل، وأصحاب الأمراض المزمنة.
وفي الختام يجب على الأطراف المتصارعة تحكيم لغة العقل، وتقديم التّنازلات والمصلحة الوطنيّة على المصالح الضّيّقة، والجلوس على طاولة الحوار، وإسناد إدارة الدّولة إلى سلطة مدنيّة منتخبة، وكذلك على المجتمع الدوليّ اتّخاذ الخطوات الحاسمة دون انتظار الحسم العسكريّ لأحد الأطراف، ومنْع التّدخُّل الخارجيّ في الصّراع الدّائر، وإيجاد الوسائل البديلة والمجدية في تقديم المساعدات الإنسانيّة اللازمة للمتضرّرين من الصّراع.
الباحث في مجال حقوق الانسان
محمد العميشات