سعيد الصالحي
في جزيرة بعيدة معزولة في مكان ما من هذا العالم الضيق كفردة الحذاء، كانت تعيش قبيلة بلغت من أسباب الرقي والتقدم ما جعلها تعتقد أنها فوق العالمين، فقد صنعوا من أوراق الشجر وأغصانها ما يستر عوراتهم، وبنوا سقوفا تحميهم من المطر والشمس، وأوقدوا نارا ودجنوا فرسا، وسنوا قوانينا لكل شيء تقريبا شملت البشر والحيوانات والأشجار، في تلك الجزيرة إفعل أي شيء ولكن لا تنتهك القانون، ولا تحاول القفز أو الطيران فوقه، وكان اسم هذا القانون “تراب”، ولا يعرف أحد من سكان الجزيرة من أين جاء هذا الاسم؟ ومن الذي سماه؟ ومن الذي منحه هذا الجلال والتبجيل؟ ولكنهم كانوا يعرفون أن هذا التراب وجد من أجل سعادتهم والحفاظ على حقوقهم ، وأن عليهم أن يعيشوا دائما تحت “التراب” وفي ظلاله، فالتراب فوق الجميع و”التراب” للجميع حتى للحمير.
كانت أيام الجزيرة مثالية وهانئة، يتكاثرون ويموتون، يفكرون ويطورون، يعملون ويلعبون، كل شيء يسير بدقة الساعة، ولم تسجل أي مخالفة تذكر منذ سنوات، فالكل سعيد وفرح لأنه يعيش في هذه الجزيرة التي توارثوها ويحكمها قانون “التراب”.
وذات ليلة تحطمت بالقرب من الجزيرة سفينة عملاقة لا تشبه قوارب صيدهم، فقد دفعتها أمواج البحر نحو جرف صخري واحتجزتها هناك، وقف سكان الجزيرة في الصباح ينظرون إلى المخلوق الضخم الكبير، والحيرة والدهشة والاستغراب يجثمون فوق أفئدتهم، فمن أين جاء هذا المخلوق الأسطوري إلى سواحلهم؟ وهل هناك حيوات أخرى خارج الجزيرة؟ ثار بركان الأسئلة وفي لحظات تدافعت حمم الحيرة والتردد وسط الجمع وفي كل مكان على الجزيرة، جالبة معها ضجيجا وريحا باردة لم تعهدهما الجزيرة من قبل، ضجيج الخوف من الجديد أو ربما من أزيز الحقيقة التي عليهم أن يواجهوها لأول مرة وجه لوجه، حتى النوارس وأسراب الذباب خفضت اجنحتها هي الأخرى وتجمعت على صخرة كبيرة لأن الطيران أو الهبوط حول وفوق مخلوق غريب أمر لم يعرفه أسلافهم ولا بد من فتوة وقرار قبل الوقوع في خطيئة الاستكشاف والمحاولة.
نظر سكان الجزيرة إلى بعضهم وكأنهم يرون بعضهم لأول مرة، فهذه السفينة قد أزالت الغشاوة عن أعينهم، وصاح رجل وسط الحشد: هيا لنرى إن كان لهذا الأمر تفسير لدى “التراب”، هز الجمع رؤوسهم وعادوا جميعا نحو قريتهم، لعلهم يجدون في “التراب” هدى، ولكن قبل وصولهم إلى ساحة القرية
هطل مطر شديد على الجزيرة، مطر لم تشهده الجزيرة منذ قرون، كانت قطرة المطر بحجم حبة العنب، وكان المطر باردا وغزيرا ويتساقط بجنون، هرع الأهالي يحتمون بمساكنهم ويحتضنون أجسادهم، ونسوا أمر المخلوق العجيب والزائر الغريب، فسلامة أرواحهم في هذه اللحظات أهم من الجواب وحكمة “التراب”، أما الأسئلة والمعرفة فيمكن تأجيلها كأي شيء مهم إلى ما بعد انتهاء العاصفة.
مرت ستة أيام والأمطار تتساقط والرياح تتلاعب في كل شيء حتى في عقولهم، وكل يوم كانت الرياح تقتلع علامة سؤال أو اشارة تعجب، وفي اليوم السابع أشرقت الشمس بعد أن انتصرت على جيوش المزن البيضاء والسوداء والرمادية، ومشطت الطرقات والمجاري من كل عوالق التردد، وأعلنت انتصارها ورفعت علمها الذهبي في كبد السماء، خرج سكان الجزيرة يتفقدون بعضهم وممتلكاتهم، كانت الخسائر بسيطة وكل سكان الجزيرة على ما يرام، صافح بعضهم البعض وتعانقوا، فهم أول جيل ينجوا من عاصفة بهذه القسوة والشراسة، كل الطيور والحيوانات كانت تخرج من مخادعها لتلقي التحية على الشمس وعلى الجموع، وعادت الحياة على الجزيرة إلى طبيعتها مع أول شعاع للشمس، فكل شيء على حاله.
وقبل أن يتفرق سكان الجزيرة إلى حياتهم سمعوا صوت طفل صغير يقول: لقد اختفى المخلوق العجيب، لقد عدت للتو من الجرف الصخري ولم أجد له أثرا.
تبادل سكان الجزيرة النظرات ولم يقترح أحد منهم أن يذهبوا للجرف للتحقق من صدق ما قاله الولد، فقانون “التراب” يمنع الادعاء الباطل، ثم سمعوا صوتا آخرا من بين الجموع يقول: هذا المخلوق يظهر قبل العاصفة بساعات ليخبرنا بقدومها، فهو ظاهرة طبيعية لا يجب أن نشغل أنفسنا بها، ولا حاجة لنا للبحث عنها في “التراب” أو في أي كتاب آخر، فهي ظاهرة سنحفظها ونتواترها جيلا بعد بعيد، هيا عودوا إلى حقولكم ومعاملكم فالأمر ليس أكثر من عاصفة هوجاء مرت بسلام، هز سكان القرية رؤوسهم واستدار كل واحد منهم نحو دربه النظيف من حمم بركان الأسئلة.
وبعد سنوات وسنوات أصبحت الجزيرة في طريق السفن التجارية والحربية التي تجوب البحار والمحيطات، وكلما شاهد سكان الجزيرة سفينة هرعوا نحو مساكنهم للاحتماء من العاصفة القادمة، وأصبح حجم السفينة ولونها بالنسبة لهم المؤشر والمقياس لحجم العاصفة القادمة، وأسسوا علوما لدراسة العواصف من خلال الظواهر التي تمخر عباب البحر.
الجزيرة ما زالت موجودة حتى اليوم وتعيش تحت “التراب” وما زالت جامعاتها تمنح شهادات الدكتوراة في تخصص علم العواصف وقانون “التراب”.