احمد حسن الزعبي
من يقرأ التاريخ يبدو له من الوهلة الأولى بأن الحرب الباردة (Cold War) انتهت مع انهيار البناء السوفييتي عام 1991، وهي الحرب التي اشتد سعيرها بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي منذ منتصف الأربعينات تخللها حصار برلين 1948/1949، والحرب الكورية 1950/1953، وأزمة برلين عام 1961، وحرب فيتنام 1956/1975، والغزو السوفييتي لأفغانستان 1979، وأزمة الصواريخ الكوبية 1962، وتدريبات الناتو عام 1983، وأنتجت الولايات المتحدة الأميركية القنبلة النووية مبكراً وجربتها مباشرة ضد اليابان في مدينتي هيروشيما وناكازاكي، عام 1945 نهاية الحرب العالمية الثانية (العظمى بالنسبة للسوفييت) بسبب رفض اليابان تنفيذ إعلان مؤتمر بوتسدام الذي دعا اليابان للاستسلام دون شروط، وبعدها سرّع السوفييت في إنتاج قنبلتهم النووية المماثلة عام 1949 بينما رصدوا معلوماتها الأولية عام 1939، وأجروا تجربتهم الأولى تحت اسم البرق الأول بينما كان للأميركان تجربة مشابهة عام 1945.
وبقدوم ميخائيل غورباتشوف في الربع الساعة الأخيرة من عمر الاتحاد السوفييتي ومعه مشروعه البيريسترويكا – غلاسنوست وما نتج عنه من تفكيك مدوٍّ لكل ما هو سوفييتي، هدأ التوتر النووي الأميركي السوفييتي بينما كانت مخاطر الحرب العالمية الثالثة المدمرة على الأبواب، وما ساعد أكثر على التهدئة هو إخلاء حلف وارسو العسكري السوفييتي لموقعه التاريخي أمام حلف الناتو الأميركي الغربي، فأصبحت ساحة السيطرة العالمية خالية للقطب الواحد الأميركي وبالتعاون مع الغرب، وشكلت حقبة بوريس يلتسين الضعيفة وغير المتزنة ركيزة أخرى لاستمرار تفوق القطب الواحد، لكن صعود اسم فلاديمير بوتين رئيساً للفدرالية الروسية منذ عام 2000 قلب طاولة القطب الواحد رأساً على عقب وحول العالم إلى أقطاب متعددة ومتوازنة سواء امتلكت السلاح النووي وغيره غير التقليدي أو لم تمتلكه، وأصبح لروسيا وحدها جيشاً أحمراً قوياً وبحرية وسلاحاً نووياً يوازن ما تملكه أميركا وأوروبا مجتمعتين إن لم تتفوق عليهم نوعاً كما أعتقد، وتتمنى أميركا ومعها أوروبا ودولاً أخرى مثل أوكرانيا الآن غياب اسم بوتين السوبرمان الذي خلط أوراق سباق التسلح وقفز اقتصادياً بالاعتماد على الذات، وأصبحت صناعات بلاده العسكرية الثقيلة من (C 300) إلى (C 400) تجوب العالم، بينما هي روسيا تمتلك ما يشبه الـ(C 600) من الصواريخ البالستية، وغيرها التي تخترق حاجب الصوت وتطوع العالم ولا تكتشفها الرادارات الحديثة، ومفاعلات نووية سليمة ناجحة تطوق المعمورة خاصة في المناطق المحتاجة لها الإنسانية، وسياسة خارجية حكيمة يقودها سيرجي لافروف تحمل ملفات العالم في سلة واحدة بما في ذلك الساخنة منها مثل الإيرانية، والسورية، والفلسطينية، والكورية الشمالية إلى جانب العمل على امتصاص التشنج القائم بين روسيا تحديداً وأميركا وإنجلترا ومعهما فرنسا حديثاً، ومواجهة العقوبات الاقتصادية الأميركية والغربية، ومماحكات (للناتو) واقترابه من الحدود الروسية والخط الأحمر.
تسجيل صوتي حديث للرئيس فلاديمير بوتين المنتخب للمرة الرابعة في بلاده روسيا هذا العام 2018 يقول فيه ‘إذا كان هناك من اتخذ قرار تدمير روسيا فإن بلاده قانوناً سترد بالمثل، وهذا سيشكل كارثة للعالم، وأنا كمواطن وقائد لروسيا أقول هنا ما الداعي لوجود عالم من دون روسيا’؟.
وفي المقابل روسيا ومن غير الحاجة للانحياز لمواقفها وسط قضايا الشرق الأوسط والعالم بل فقط لإنصافها وبموضوعية دولة قانون ومؤسسات، ومن اكثر أقطاب العالم تمسكاً بالقانون الدولي وبأوراق الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومحكمة الجنايات الكبرى في لاهاي، والأقرب للحوار والجلوس على طاولة الند للند، وترحب دائماً في عقد اللقاءات الدولية ومنها دعوة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، لكن ليس في ظروف التشنجات والعقوبات وطرد الدبلوماسيين والمماحكات الصاروخية غير المسؤولة في سورية رغم التنسيق المسبق كما صرح بذلك أخيراً وزير الخارجية سيرجي لافروف والاتفاق على الخطوط الحمر. ومن السذاجة القول بأن أميركا ومعها إنجلترا وفرنسا حققوا انتصاراً على روسيا في ضربتهم الثلاثية الأخيرة، بينما هو الحوار الروسي مع الغرب مستمر، ولا رغبة لدى موسكو للاصطدام المباشر معهم وفي هذا التوجه حكمة وبعد نظر وليس ضعفاً، وكلنا نعرف قوة روسيا العسكرية على المستويين التقليدي وغير التقليدي، وصواريخ (C 300) لسورية لتمكينها من ردع الاعتداءات الخارجية المتكررة على فضائها وناسها أصبح ممكناً.
ولعل أهم الأسباب التي دعت للقلق الروسي من عيون الغرب ولا زالت كذلك التشكيك الأمريكي في نتائج الانتخابات الأميركية الأخيرة عام 2016 والتي دفعت بالجمهوري ترمب إلى سدة البيت الأبيض بنفس الوقت الذي تعاطفت موسكو مع انتصاره رغم عدم تدخلها المباشر في نتيجته، وهو الأمر الذي يدخل في دائرة الاستحالة ولم تستطع واشنطن واستخباراتها إثباته، ولو انتصرت هيلاري كلينتون عن الحزب الديمقراطي لما غيرت موسكو موقفها إلى الاتجاه السلبي من واشنطن، وهي التي تدعوها دائماً للحوار وتبارك نجاحاتها.
والسبب الثاني الساخن هو الأزمة السورية ومسألة ظهور مشكلة السلاح الكيماوي في الغوطة الشرقية ودوما والتشكيك بحماية روسيا لنظام دمشق المشكوك غربياً باحتمال ضلوعه فيها، وهو الأمر الذي قابلته أميركا، وبريطانيا، وفرنسا بهجوم صاروخي غير مقنع على دمشق، رغم الاتفاق المسبق مع موسكو على التفتيش من قبل منظمة حظر الأسلحة الكيماوية، وعلى عدم تجاوز الخطوط الحمراء الروسية.
والسبب الثالث يكمن في توتير أميركا لملف إيران النووي رغم الاتفاق السابق (1 + 5) بجهد أميركي روسي وأممي مشترك تحت مظلة مجلس الأمن والأمم المتحدة لمنع طهران من الشروع في إنتاج السلاح النووي سراً أو علناً.
وفيما يتعلق بالقضية الفلسطينية العالقة من دون حل ناجع منذ عام 1948 فإن تبايناً واضحاً بين الموقفين الروسي والأميركي تحديداً، فلقد واصلت روسيا مساندتها لبناء دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشرقية في الوقت الذي أحبطت فيه اميركا قضية فلسطين بواسطة الإعلان عن نقل سفارتها إلى القدس، والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل بدلاً من الالتزام بمظلة قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن والإبقاء على القدس عاصمة أبدية لفلسطين، ورفع أميركي لصفة الاحتلال عن فلسطين والأراضي العربية المحتلة تكريساً إضافياً للاحتلال وعلناً. وانسجام أميركي روسي مع الإبقاء على الوصاية الهامشية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس في إطار مكانتها التاريخية، وهو ما أكده جلالة الملك عبدالله الثاني في قمة الظهران 2018 في المملكة العربية السعودية على الحق الأبدي الخالد للفلسطينيين والعرب والمسلمين والمسيحيين في القدس التي هي مفتاح السلام في المنطقة ولا بد أن تكون حجر الأساس لتحقيق الحل الشامل الذي يضمن إقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية استناداً إلى حل الدولتين وسيادة الاسلام العربية.
وترحيب روسي بالتقارب الأميركي مع كوريا الشمالية حول موضوعها النووي الذي وصل لمرحلة إيقاف التجارب النووية على أمل الوصول لعتبة تخليصها من سلاحها النووي بالكامل مقابل ضمانات دولية لأمن نظامها وشعبها.
ويبقى الملف الأوكراني ساخناً وقادراً على إبقاء مسافة التشنج الروسي الأميركي ماثلة بسبب التحليق الأميركي في فضاء القضية الأوكرانية التي لا زالت عالقة بسبب رفض (كييف) اتفاقية السلام (مينسك) تحت التأثير الأميركي كما هو ظاهر، وتمسك للتيار البنديري المتطرف بخيار السيطرة على شرق أوكرانيا بالقوة وإغلاق كافة الأبواب أمام الحوار. وفي الختام تمكنت روسيا أن تتجاوز كافة أزماتها مع واشنطن وحلفائها وكان آخرها قضية الجاسوس سيرجي سكريبال، ولن تستطيع أية جهة عالمية إعاقة عقد كأس العالم بكرة القدم هذا العام 2018، ومع تمنياتي للعلاقات الروسية الأميركية والأوروبية بأن تتعافى لمصلحة أمن العالم والله من وراء القصد.