د.منصور محمد الهزايمة
بات مفهوم القوة الناعمة اليوم شامخا ومتناولا من جانب كثير من الساسة والأكاديميين، علما بإنه غطاء حديث لسياسات قديمة، وُينسب بإجماع نادر للأكاديمي والسياسي الأمريكي جوزيف ناي الذي استخدمه منذ عام 1990.
يُعرّف ناي القوة الناعمة بأنها «القدرة على صياغة خيارات الآخرين، والحصول على ما تريد عبر الجاذبية أو السحر بدلا من القهر أو الإكراه” لكنه كغيره من المفاهيم أُخضع للجدال والنقاش، فبرزت مساحات جديدة من التحليل السياسي والأكاديمي، ليحظى المفهوم اليوم بمؤشر وأدوات قياس خاصة به.
أمّا أبسط تعريف لنعومة القوة”أن تستخدم الدولة ما تمتلكه من أصول ثقافية وحضارية وأدبية وفنية في جذب الأخر أو تطويعه دون اللجوء إلى الإكراه أو العنف”.
القوة الناعمة لها من الجاذبية اليوم بحيث بات كثير من الدول يتغنى بها، لتجميل ممارساتها أو أنها تسعى للتدثر بغطائها، خاصة أن ثمار هذه السياسة أضحت ناجعة مقابل القوة الخشنة أو الغاشمة.
اليوم تسعى كثير من الدول خاصة تلك التي لا تتمتع بأسباب القوة الخشنة- مهما أعدّت لها- أن تُسخّر ما تمتلكه من قيم ومبادئ وجاذبية في تسويق نفسها، أو التأثير في السياسة الدولية، دون أن تتحمل تكلفة باهظة، لكنها في الوقت ذاته تخوض السباق مع دول يمكنها أن تتقلب بين الغاشم والناعم.
مؤشر “القوة الناعمة30″ طورته مؤسسة بحثية أمريكية هي مركز الدبلوماسية العامة التابع لجامعة جنوب كاليفورنيا، بالتعاون مع شركة «بورتلاند» البريطانية للعلاقات العامة ويقوم على قياس القوة الناعمة من خلال أسس /غير موضوعية/ عن طريق الاستبيانات، حيث يطلب من المستهدفين: تقييم المطبخ القومي لدولة ما، والسلع التي تنتجها، بما في ذلك السلع الابتكارية والكماليات، ونظافة شوارع المدن، والترحيب الذي يتلقاه الزوار من قبل السكان، والثقافة القومية كما اعتمد المقياس درجة من 100 بناءً على 6 أسس للسمعة والنفوذ.
أمّا /الأسس الموضوعية/ التي تقيس القوة الناعمة في الدول فهي ستة، بحيث أعطت لكل واحدٍ من هذه الأسس وزناً معيناً، وهي جودة مؤسسات الدولة، وانتشار الدولة ثقافياً، وقوة الدبلوماسية والسياسة الخارجية، وسمعة التعليم العام وخاصة العالي منه، وقوة الاقتصاد وجاذبية الاستثمار فيه، والتواصل الرقمي مع العالم مع تحديد بنود قابلة للتقييم والقياس.
المؤشر يرصد القوة الناعمة على مستوى العالم، ويقيس قدرة دول مختلفة على التأثير في البلدان الأخرى عن طريق قيمها الاجتماعية بدلا من الأموال أو الأسلحة، وقد تصدرت الولايات المتحدة القائمة في البداية لتزيحها بريطانيا في 2015 ولتتصدر فرنسا في 2017.
يتضح على المؤشر أيضا أن القارة العجوز ما زالت تسيطر على القائمة، تحتل رأسها ووسطها وذيلها، وتقبع الصين في الذيل، نسبة لما تتعرض له من نقد في مجال حقوق الإنسان، ونفذت روسيا إليها لأول مرة من ذيلها أيضا، نسبة للصراعات العسكرية التي تنغمس بها، أمّا العرب فهم خارج اللعبة، وتتقدم إسرائيل على تركيا لكنهما كلاهما يركنان في الذيل. المهم أن الدول العربية بل والإسلامية عدا تركيا لم تدخل القائمة على الرغم مما تمتلكه من أصول القوة الناعمة، لكنها لا تستخدمها بالأسلوب الأمثل، ويعود ذلك إلى المناكفات بين الدول، واتباع المكر في السياسات الوطنية غير الرشيدة أو الإقليمية غير الناضجة والتورط بنزاعات مؤسفة.
القوة العسكرية العظمى أزيحت هذا العام عن رأس القائمة من قبل فرنسا، ويبدو أن نهج الرئيس الجديد في كل منهما لعب دورا بارزا في المنافسة، فمن نهج يقوم على الابتزاز والتحدي يتبعه ترامب، إلى نهج يتصف بالاعتدال والاتزان في فرنسا يمثله ماكرون.
يريد الرئيس الأمريكي اليوم أن يعامل العالم كما هو وليس كما تريده أمريكا وهو بدوره يقيس النجاح بعقد الصفقات وهو أسلوب مُنفّر يتناقض مع مبادئ القوة الناعمة بل وربما يخرج عن النهج الأمريكي المعمول به منذ أكثر من قرن منذ أن برزت الولايات المتحدة كقوة عظمى بعد الحرب العالمية الثانية، حيث اعتمدت سياستها الخارجية مقولة شهيرة للرئيس الأمريكي السابق ثيودور روزفلت (1901-1909) “تحدث بلطف، واحمل عصا غليظة”.
يخطئ كثير من الدول والأفراد عندما يعتقدون أن قوة الدول تقاس بما تمتلكه من قوة صلبة (عسكرية)، لكن الواقع يقول إن القوة الخشنة في الدول العظمى لم تحقق أهدافها، ولم تحسم غاياتها، بالرغم من كلفتها، لكنها حققت ما تريد عندما استثمرت في القوة الناعمة.
الدوحة – قطر