جوان الكردي
في الوقت الذي ترفع فيه الشعارات عن العدالة الاجتماعية والمساواة، نجد أن قرارات الحكومة بشأن المتقاعدين المدنيين تكرّس التهميش بحق شريحة واسعة من الذين أفنوا أعمارهم في خدمة مؤسسات الدولة والمجتمع؛ أكان في القطاع العام أو الخاص.
جلالة الملك أنصف المتقاعدين العسكريين الذين أمضوا حياتهم المهنية وهم يستفّون التراب ويذودون عن حياض الوطن ويحرسون أرضه وسماءه وحدوده، واضعين أرواحهم على أكفّهم، وهو الأعلم بأحوالهم وقد شاركهم لفترة طويلة قسوة الحياة العسكرية ومرارتها.
لكن، أين الحكومة من المتقاعدين المدنيين؟ ولماذا لا تقتدي بجلالته وتأخذ بتوجيهاته في تأمين الحياة الكريمة لهم ولأسرهم؟
فعلى الرغم من أن علاوة غلاء المعيشة الشهرية، البالغة 135 دينارا، هي أهم علاوة يتقاضاها موظفو القطاع العام من الفئات الأولى والثانية والثالثة، إلا أنها لم تزد منذ 13 سنة، إذ كانت آخر زيادة عليها عام 2012، وفق المرصد العمالي الأردني.
في المقابل، لم تتوقف معدلات التضخم عن الارتفاع، ما أدى إلى تآكل الرواتب وضعف القدرة الشرائية وانخفاض مستوى المعيشة عند 543 ألف موظف وموظفة يعملون في القطاع العام، وفق آخر إحصائية للعمالة والبطالة أصدرتها دائرة الإحصاءات العامة عام 2016
كيف يعقل أن يتقاضى بعض المتقاعدين المدنيين رواتب لا تصل حتى إلى الحد الأدنى للأجور؟ هل أن المتقاعد المدني لم يخدم الوطن؛ أم أن جهوده باتت تقاس بمعايير انتقائية لا تراعي العدالة ولا تنصف من قدّموا سنوات طويلة من العطاء؟.
صحيح أن العسكري قدّم تضحيات وخدم في ظروف خاصة، وهو يستحق المزيد من الدعم، لكن الموظف المدني أيضاً حمل على عاتقه مسؤوليات لا تقل أهمية، أكان في التعليم أو الصحة أو الإدارة أو الخدمات الحكومية، أو أي من مؤسسات الدولة أو القطاع الخاص التي بدونها لا يمكن لأي منظومة أن تستمر.
ليس سراً أن رواتب الموظفين المدنيين لم تشهد أي زيادات حقيقية منذ عشرات السنين، بينما ارتفعت تكاليف المعيشة بشكل هائل، مما جعل المتقاعد المدني يجد نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما: إما القبول بحياة التقشف والحرمان، أو البحث عن عمل إضافي رغم تقدمه في العمر وصعوبة ذلك.
تفيد تقارير المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي لعام 2021، بأن ما نسبته 56 بالمئة من العاملين المشتركين في الضمان تبلغ أجورهم الشهرية (500) دينار فما دون.
ووفق المرصد العمالي، فإن هذا المستوى من الأجور منخفض جدا إذا ما قورن بمستويات خط الفقر في الأردن، فالأرقام الصادرة عن دائرة الإحصاءات العامة لعامي 2017 و2018 تُشير إلى أن قيمة خط الفقر المطلق تبلغ (1200) دينار للفرد سنويا، في حين أن خط الفقر للأسرة المعيارية يقارب الـ(480) دينار شهريا.
الأدهى أن الحكومة تدرك تماما هذه الحقيقة لكنها تختار التجاهل، وكأن المتقاعد المدني مجرد عبء يجب تحمله، وليس إنسانا له حقوق مشروعة يجب احترامها. وبدل أن ترفع علاوة غلاء المعيشة تلجأ إلى رفع أسعار الفائدة على القروض لتزيد من معاناة المقترضين، وجلّهم موظفون ومتقاعدون.
أما قضية التقاعد المبكر، فهي ظلم آخر يضاف إلى معاناة المتقاعدين المدنيين. فالكثيرون اضطروا للتقاعد المبكر لظروف خارجة عن إرادتهم، أكان بسبب قرارات إدارية مثل إعادة هيكلة بعض المؤسسات، أو حتى لظروف صحية أجبرتهم على ذلك.
ومع ذلك، يُعامل هؤلاء وكأنهم اختاروا إنهاء حياتهم المهنية طواعية، فيُحرمون من حقوقهم، وتتآكل رواتبهم وكأنها عقوبة على قرار لم يكن لهم يد فيه.
أليس من الظلم أن يعامل المتقاعد مبكرا بهذه القسوة، بينما كان يمكن أن يكون التقاعد المبكر حلاً عادلا لمن لم يستطع الاستمرار في العمل.
هذه السياسة المجحفة بحق المتقاعدين المدنيين ليست مجرد خلل إداري، بل هي انعكاس لفكر لا يرى في هذه الشريحة سوى أرقام في دفاتر الحكومة، بدون النظر إلى معاناتهم الحقيقية.
إذا لم تكن هناك مراجعة حقيقية لسياسات التقاعد المدني، وإذا لم يتم إنصاف هذه الشريحة كما تستحق، فإلى متى سيظل المتقاعد المدني يعاني بصمت دون أن يجد من ينصره، ويعيد شيئا من الحقوق التي يستحقها بعد سنوات من العمل والعطاء!.
متى تستجيب الحكومة لتوجيهات الملك وتنصف الموظفين والمتقاعدين في القطاعين العام والخاص؟!